الأمازيغية و الأمية اللغوية : هل تيفيناغ حرف مغربي ؟
بقلم : رشيد الإدريسي
الوطن قبل القبيلة
لقد تحلى وزير التعليم العالي الحسين الداودي بقدر غير يسير من الجرأة العلمية و الأخلاقية و السياسية و هو يفجر مسكوتا عنه لدى كل المغاربة الناطقين و غير الناطقين بالأمازيغية ، إذ صرح بأن اختيار حرف تيفيناغ اختيار غير موفق ، و أن
استعماله في كتابة الأمازيغية حوَّل كل المغاربة إلى أميين في هذه اللغة . و هذا النوع من التصريحات الشجاعة التي لا تقيم أي اعتبار للحسابات السياسية الضيقة ، و التي تضع مصلحة الوطن قبل كل مصلحة أخرى و تفكر من خارج الطائفية التي يراد إلقاءُ بذورها في التربة المغربية ، هي الكفيلة بتجنيب المغرب الكثير من المزالق التي تنتظره عند منعطف الطريق ، و التي يُهَيَّأ لها بإحكام و لا تثار إلا في الكواليس ، كما كشفت عن ذلك وثائق ويكيليكس التي لم تعد سرا . و المؤسف هو أن الكثير من الهيئات السياسية تتعامل مع هذا الملف بنوع من التساهل و تعتبره أداة للاستقطاب ؛ بحيث تساير بعض الجمعيات في تصوراتها النزوعية المتطرفة أو تعتمد سياسة النعامة ، مفضلة عدم إثارة الموضوع بحجة أنه ذو طابع ثقافي ، بينما هو يضرب بجذوره في السياسة على مستوى التصورات و المآلات .
البداية المتسرعة
قبل الإجابة عن العنوان السؤال : "هل تيفيناغ حرف مغربي ؟" نشير بداية إلى أن اعتماد حرف تيفيناغ في كتابة الأمازيغية سيظل من أسوأ الاستشارات التي قدمت للعاهل المغربي محمد السادس في بدء حكمه . لا ندري من يتحمل تبعة هذه الاستشارة مباشرة ، لكن الذي لا يقبل الجدال هو أن المسؤولية الأساسية تقع على المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ممثلا في كل أعضائه و في عميده الأول محمد شفيق على وجه الخصوص ، محمد شفيق الذي مارس التقية طيلة حكم الراحل الحسن الثاني بحديثه الذي لا ينقطع عن الحرف العربي الذي يجب أن تكتب به الأمازيغية ، و الذي كشف عن وجهه الحقيقي في بدء مرحلة حكم محمد السادس . فاعتماد هذا الحرف الغريب عن ثقافة المغاربة و وجدانهم و تاريخهم لم يتم تبنيه من قبل المعهد لأسباب علمية ، بل الهدف الذي تحكم فيه هو قطع العلاقة التي قامت تاريخيا بين الأمازيغيات من جهة و الحرف واللغة العربيتين من جهة أخرى ، للانتقال بعد ذلك من الفصل الثقافي إلى الفصل السياسي و الاجتماعي ، و تحويل المغرب إلى دولة/دويلات يستحيل التفكير في قضاياها المختلفة من خارج الإطار الطائفي ، و الذي يؤدي في الكثير من الحالات إلى تفكيك الدولة و المجتمع .
هل حرف تيفيناغ حرف مغربي ؟ هل له علاقة بالأمازيغية تفوق علاقتها و ارتباطها بالحرف العربي ؟ الجواب العلمي على هذا السؤال هو : لا قطعا ، و ذلك بعيدا عن الأساطير و الأكاذيب التي يعتمدها بعض النزوعيين من الغلاة و المتطرفين الذين ينسبون أنفسهم للأمازيغية و هي منهم براء ، و الذين يعملون على تحريف التاريخ و قلب الحقائق دون إقامة أي اعتبار للموضوعية و النزاهة العلمية . هذا النوع من التفكير المنحرف ناتج عن كون أصحابه يتبنون شعار "اكذب ثم اكذب إلى ما لا نهاية ، إلى أن يصدقك الناس ، و إن صادف و انكشفت الكِذبة فلا ضير في ذلك لأن أثرها في رأيهم سيبقى قائما حتى بعد انكشافها" ، و لذلك فهم يصرون على تبني الخطأ و الوهم بشكل قصدي حفاظا على "نزوعاتهم الفكرية" ، و يعملون على إقناع ذواتهم و الآخرين بمطابقتها للواقع و التاريخ ، بينما هي تتحكم فيها الرغبة في تحقيق أهداف لا يعلن عنها صراحة ، و التي انكشفت بشكل فاضح في التقارير السرية بأسماء أصحابها و مؤامراتهم التي بلغت درجة من الحقارة لا يمكن احتمالها أو السكوت عنها .
الجذور في التسمية
إن الكثير من الألفاظ تحمل في ذاتها تاريخها الخاص ، بحيث لسنا في حاجة إلى استحضار معطيات خارجية لفهم أصولها ، و هذا ما ينطبق بالضبط على تسمية هذا الحرف الذي يراد ربطه بالأمازيغية قسرا ، فـ"تيفيناغ" كما يؤكد ذلك كبار الدارسين من أمثال روني باسي René Basset و كابرييل كامبس Gabriel Camps مشتق من الجذر اللغوي [ ف ن غ] و الذي يحيل على لفظة [فنق] الذي يذكر بأصل هذه الأبجدية الفنيقي ، فتيفيناغ في الأصل كانت تنطق بالقاف أي تيفيناق ، و نظرا لكون حرف القاف و الغين ينوب بعضهما عن بعض حسب الباحثين الغربيين الذين عكفوا على دراسة الأمازيغيات بمختلف تفريعاتها ، فقد تم تعويض القاف في هذا اللفظ بالغين تسهيلا لعملية النطق ، ليصل إلينا و هو يحمل معه جذوره وأصوله الفنيقية . يقول الجنيرال الفرنسي لوي جوزيف هانوتو Louis Joseph Hanoteau المختص في الدراسات اللغوية القبائلية : "إن تسمية أبجدية تفيناغ وحدها تفضح أصلها الفينيقي ؛ فتفيناغ اسم مؤنت بصيغة الجمع ، مفرده تفنيقت أي الفنيقية " .
الشرق في المغرب
معلوم أن متطرفي النزوع الأمازيغي لهم عقدة مستحكمة تجاه كل ما يأتي من المشرق ، و هم هنا بتفضيلهم لهذا الحرف الفينيقي على الحرف العربي الذي هو المؤهل لكتابة الأمازيغية ، يجعلون أنفسهم أكثر مشرقية من غيرهم ، على اعتبار أن الفنيقيين هم الكنعانيون الذين كانوا يسكنون بلاد الشام . و هذا الأصل أي الكنعاني هو ذاته الذي كان ينسب إليه القديس أغسطين الأمازيغ الذين كان شائعا في عصره أنهم ذوي أصول كنعانية . هذه إشارة أولى تبرز واضحة من خلال الوقوف عند هذه التسمية والتي تكشف كيف أن تفاعل الأمازيغ مع الشرق و ارتباطهم به أو ارتباطه بهم مسألة لا تقبل الإنكار ، و هو ما يكشف بدوره أن عقدة المشرق و كراهيته التي يعاني منها النزوعيون و يرددونها بلا ملل ، هي وليدة مرحلة الاستعمار الذي عمل ما في وسعه و ما زال لعزل المغرب عن محيطه العربي ليسهل التهامه ثقافيا و سياسيا ، و حرف تيفيناغ على المدى البعيد هو إحدى أدوات هذا الالتهام .
محاولة للتضليل
إزاء هذه الحقيقة العلمية المرتبطة بهذا الحرف و التي تحاصر الباحث كلما حاول التنقيب في الموسوعات و الكتب ، نجد لدى بعض الذين يقلبون الحقائق و يزورون التاريخ من يتحدث عن أن تيفيناغ معناه اختراعنا أو اكتشافنا ، و هو تأويل يشيع بين متطرفي الطرح الأمازيغي المغاربة على وجه الخصوص . فلإخفاء هذا الأصل الفينيقي البيّن ، اهتدى البعض اعتمادا على تحريف الألفاظ و تقطيعها حسب الأهواء ، إلى أن اللفظة مكونة من "تفي" أي اختراع و"نغ" الدالة على ضمير المتكلم الجمع ، و هو تأويل لا أساس له من الصحة ، تأويل شديد التبسيط لا يأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الموجودة بين الأمازيغيات المنتشرة في كل مناطق شمال إفريقيا ، كما يهمل التطور الذي عرفته هذه اللغة/اللغات منذ أقدم العصور . فالأمازيغية التي تعود إلى ألاف السنين ، و التي ظهرت فيها هذه اللفظة كما يقول الدارسون ليست هي تاشلحيت أو تاريفيت أو القبايلية التي يُتَحَدَّث بها اليوم .
و لو سلمنا جدلا بأن هذا الحرف كتب به الأمازيغ و بالتالي أصبح من حقهم ادعاء نسبته إليهم ، فهذه القاعدة تسري على الحرف العربي أكثر مما تسري على هذا الحرف الفينيقي ، ذلك أن الارتباط بهذا الحرف كان بدون عمق ، إذ اقتصر على بعض الأسطر التي تكتب على الحجارة أو على شواهد القبور ، بينما الحرف العربي يمكن القول أن ارتباط الأمازيغ به هو ارتباط حضاري يشتركون فيه مع مختلف المكونات المغربية الأخرى . قد يقال بأن الارتباط بهذا الحرف أقدم وهو لا يمكنه إلا أن يكون كذلك على اعتبار أن الحرف العربي ارتبط بحدث دخول الأمازيغ في الدين الجديد الذي هو الإسلام ، لكن خاصية القدم هنا لا قيمة لها ، لأنها لم يتولد عنها أي إبداع فكري له قيمته الاعتبارية . و أقوى حجة على ذلك هو أن تواجد هذا الحرف يعيده البعض إلى أكثر من ألفين و خمس مائة سنة ، و مع ذلك لا نجد في غضون آلاف السنين هاته و لو كتابا واحدا بهذا الحرف ، بل لا نجد و لو مجرد عنوان كتاب واحد ، فهل هناك دليل أقوى من هذا على بعد هذه الأشكال الهندسية التي لم تصقلها الحضارة عن وجدان المغاربة كيفما كانت لغاتهم و لهجاتهم .
تضليل من نوع آخر
عندما تطرح على بعض المتعصبين اللغويين هذه الحجج ، و تواجهه بهذه الحقائق التي لا تقبل الدحض ، يلجأ إلى بعض التخريجات الواهية من قبيل أن هذا الحرف حافظت عليه المرأة الأمازيغية بإدراجه في الزرابي التي تقوم بنسجها ، و يضفون على ذلك خلفيات إيديولوجية لم تكن تفكر فيها المرأة المغربية وهي تنسج إبداعاتها تلك ، ليصبح هذا الفعل الإبداعي من خلال التأويل النزوعي العنصري المتطرف ، نوعا من المواجهة للحرف العربي و مقاومته . و ما يسكت عنه أصحاب هذا الفهم المغرض هو أن هذا الحرف حضر بالفعل لدى النساء أكثر من غيرهن وخاصة لدى قبائل الطوارق ، و في مقابل ذلك حضر في مرحلة ما بعد دخول الإسلام الحرف العربي الذي كان يكتب به الرجال في الغالب . ثم إن حضور هذا الحرف كان بحكم العادة لدى النساء اللواتي لم تتح لهن فرصة تعلم القراءة و الكتابة ، على عكس بعض الرجال . فالوضع لا علاقة له بالمنافسة التي يحاول أصحاب التفسير العنصري للتاريخ اختلاقها بين هذين الحرفين ، بدليل أن الدارسين الغربيين وجدوا أن بعض القبائل في منطقة تمبوكتو كانت تستعمل علامات الشكل الخاصة باللغة العربية من أجل تمييز الصوائت القصيرة في كتابة تيفيناغ . فحضور الحرفين معا كان استجابة لحاجات و لوظائف ذات علاقة بنمط التعليم و وضع المرأة و الرجل في المجتمع ، و لا علاقة له بأي خلفية هوياتية كتلك التي يراد ربطه بها اليوم من قبل أصحاب الطرح المستند إلى الأدبيات الاستعمارية ، هذه الأدبيات التي كان لها ما يسوغها في فترة ظهورها و هي التفريق و التمييز بين مكونات شمال إفريقيا ، لتحقيق الهيمنة على المنطقة من زوايا مختلفة يشترك فيها السياسي و الجغرافي و كذا الثقافي الذي لا ينتبه لخطورته اليوم .
فئران التجارب
بعد كل هذه الحقائق تنهار الخلفية التاريخية التي يستند إليها المتعصبون لهذا الحرف ، و يبقى بالإضافة إلى ذلك مستوى لا يقل خطورة عن هذا البعد التاريخي إن لم يتجاوزه في الخطورة ، و الأمر يتعلق بالبعد التربوي . فقد أشار ابن خلدون إلى أنه في عملية تلقين المتعلم المعارف يجب مراعاة قاعدة أساسية تتمثل في التدرج و التبسيط يقول : "اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا ، إذا كان على التدريج ، شيئا فشيئا و قليلا قليلا". و إذا كان الأمر كذلك فيما يخص العلوم التي لا يتلقاها المتعلم إلا بعد أن يكون قد اشتد عوده و تمكن من فك الحروف و الألفاظ و الجمل ، فما بالك بالذي يخطو الخطوات الأولى في هذا المجال و يقف على عتبة التعلم ؟ فاعتماد حرف تيفيناغ في كتابة الأمازيغية من هذه الزاوية بدل الحرف العربي ، يرفع عدد الحروف التي على الطفل المغربي تعلمها إلى ما يقرب من مائة حرف ، فكيف يمكننا أن نحفزه للإقبال على المعرفة و نحن نعمل على تلقينه دفعة واحدة ثلاث أبجديات يختلف بعضها عن بعض : عربية و لاتينية بإملائية فرنسية و فينيقية ، كيف يمكن أن يُقبل على المعرفة و نحن نغرقه و هو مازال غضا ، فيما يقرب من مائة رمز لا يشبه أحدها الآخر . ربما يتصور البعض أن أبناء المغاربة فئران تجارب و لا ضرر في أن نضحي بالبعض منهم و نفشل مسيرتهم التعليمية منذ المنطلق !! و السبب هو أننا و للأسف أكثر تخلفا من عصر ابن خلدون ذاته !!
جماجم المغاربة
هذا فيما يخص آثار اعتماد حرف تيفيتاغ على الطاقة الاستيعابية للطفل المغربي ، أما فيما يخص هويته فلن تكون إلا هوية متشظية بئيسة و أداة لزرع الطائفية و المحاصصة ، لأن الرموز لها دورها في تشكيل الهوية ، و هذا ما يراهن عليه متطرفو الأمازيغية ، لأن اعتماد حرفين و إدخالهما في صراع كما هو الشأن فيما نعيشه اليوم ، معناه اعتماد رؤيتين ، خاصة إذا تم تأطيرهما بخطاب عنصري كالذي يُرَوج له الخطاب الأمازيغي النزوعي . إن النتيجة التي يعمل صقور الطرح الأمازيغي للتوصل إليها و التي تحكمت في اختيارهم لحرف تيفيناغ منذ البدء ، هي خلق كائنين مغربيين مختلفين كل منهما يربط نفسه برموز بعينها و ذلك بغاية الوصول إلى إيجاد قاعدة عريضة تتبنى شعار رفض الحرف العربي و الاكتفاء بحرفها الفينيقي الذي يسمى كذبا بالأمازيغي ، و فرضه على جزء من المغاربة بـ "القوة". و بما أن لهذا الحرف حدودا واضحة على مستوى الإشعاع و لن يتيح للمغربي الفرصة للانفتاح على العالم ، فإنه بعد أن يكون هذا المغربي الذي ستجف لديه منابع المشترك الوطني قد تلقى جرعة زائدة من كراهية الحرف و اللغة العربية ، آنذاك سنرى التحقق العيني لروح الظهير البربري المشؤوم ، و سنعاين من يحلم بالانفصال الجغرافي ، يغريه نموذج دولة إسرائيل الذي تُضْفَى عليه مختلف القيم الإيجابية لدى متطرفي الحركة الأمازيغية ... إنه سيناريو مرعب ، و الرعب يسكن مستقبل كل الدول التي ترتجل الحلول السريعة للقضايا التي تتطلب التريث ، و على العموم فإن من يفكر في هذا السيناريو ، بعد أن ينجز هذا الحرف أهدافه الخفية ، عليه أن يستعد للمرور و سحق جماجم كل المغاربة جميعا قبل تحقيقه على أرض الواقع .