صرت له عبدا...
إكرام عبدي
أستحضر سراب الأسئلة التي تحلق كطيور الصباح في فضاء رأسي عند كل يوم عالمي؛ لماذا اليوم العالمي للمرأة والبيئة والمعاق والطفل والشعر.... وليست أيام عالمية للرجل أو الأب أو النقد أو الرواية ....، كنت أشم في كواليس هذه الأيام العالمية رائحة الضعف التي يتم تكريسها بلاوعي مسبق، وخاصة أنها أيام لإثارة الانتباه لفئات عانت ولا تزال تعاني من التهميش وللاهتمام التاريخيين، ولذوي الاحتياجات الخاصة، ولبيئة تختنق ولشرائح مجتمعية يطالها الفقر...
هذه المرة، كان الاحتفال ب"اليوم العالمي للمدرس" منصفا، ولم يختر كائنا مستضعفا ليلفه بورق الهدايا، بل كان "المدرس" هو المحتفى به، كائن لم يهمش تاريخيا ولم يصبه أي ظلم في زمن مضى، بل هو عادة من كان يصوب نحونا سياط غضبه ونقمته، ومع ذلك يحتاج لوقفة تبجيل، يحتاج ليوم التفاتة لا نحاذيه فيه ونتجاوزه، وكأنه محض عدم.
يوم مختلس من زمان عابر؛ أجج حنيني لمقاعد الدرس، حيث وجوه أساتذتي تبدو ضبابية مراوغة عصية على الإمساك ، ولكن وجهين استطاعا أن يحميا ملامحهما من غارات النسيان، وجه كان كريما في حبه، هو وجه أستاذة اللغة العربية، ووجه آخر كان كريما في كرهه، هو وجه أستاذ مادة الرياضيات.
أتذكر أستاذة اللغة العربية؛ بملامحها الجدية أحيانا والبشوشة أحيانا أخر، ابتسامة لا تكاد تغادر شفتيها بوقفة رزينة وطريقة كلام مهذبة، كان حضوري في حصتها ينعش روحي ويذرف على صدغي رذاذ الندى، فظللت في حضرة اللغة العربية ذاهلة منتشية إلى الآن. أما أستاذ مادة الحساب؛ فلن أنسه بسيجارته التي ينفثها من أنفه وفمه، وأصابعه المتشنجة التي تعبث بحبات الطباشير، جريمتي أنني لم أبصر يوما الأرقام جيدا، فكان أن قدم إلي زاعقا بوجه محتقن قابل للانفجار، وبعيون تجمهر بها الشرر، ليكلمني قبل السؤال بلطمة لم تخطئ الخد، صفعة لم أعتد عليها من والدي ، ليعلو ويهبط بكائي الطفولي تقطعه آهات ألم غير متواصلة.
صرت أحضر حصة الرياضيات، بنظرات ملولة انطفأ فيها كل توق إلى التعلم، بل في وقت الامتحان تنتصب الورقة كوحش مخيف ينزعني من تركيزي ويلقي بي في موج التوتر والقلق .
سابقا؛ كانت قاعات الدرس أشبه بحضانة تشوبها علاقات تسلطية قمعية؛ لا تكف عن ترداد الأوامر والنواهي، هي علاقة عمودية بين معلم لا يقبل النقاش أو الخطأ في قاعات درس أشبه بمعتقل، يغدو فيها الزمن بطيئا ومزعجا، ويغدو المعلم أشبه بالسجان يحلم باقتناص فرصة ضبط الخارجين عن النص لينزل بصفر السوط، بحيث لا تنفرج أساريره إلا عند ورقة تمتلك قدرة الحفظ، وغالبا ما تكون النتيجة طفلا في مقتبل العمر مطيعا لا يفكر في الشغب غير مزعج وغير قادر على النقد، غير مزعج تماما كما تخيلته «السلطة»، بعقلية شبه مشلولة غير قادرة على النقد، قوامها الامتثال والخنوع، حيث تنعدم لديه روح المبادرة، فيستكين للتبعية السلبية، ويبدو غير قادر على المواجهة أو إبداء الرأي، ولاحتى على اختيار مرشح دائرته أو عمدة مدينته بكل وعي ومسؤولية، وبالتالي غير قادر على التمييز بين الإسلام الحقيقي وبين التطرف، وينجرف بسهولة في دوران الآلة الاستهلاكية، وينساق انسياق الأعمى وراء الأفكار المستوردة.
هي علاقة عبودية بين المعلم وتلميذه؛ في فضاء مسقوف بالأوامر، مثقل بالضجر، يتدحرج وئيدا، تؤثث جدرانه بفخاخ مقولات تستدرجنا بمكر وشكيمة، لإملاء فروض الطاعة والامتثال والإذعان: "من علمني حرفا صرت له عبدا"، آن الأوان أن نطبق أجفاننا بشدة على هاته العبارة ونفتحها على عبارات من قبيل: من علمني حرفا صرت له مناقشا، مجادلا، لم لا ندّا في الحوار، فعلاقة المعلم بالتلميذ يجب أن تكون علاقة صداقة وحوار و إبداع وتبادل، فكل خطأ أو تهور أو عنف من طرف الأستاذ سيحفر مجراه عميقا في نفسية الطفل، وأكيد لن تنبجس في المستقبل سوى نفوس مدججة بالكراهية والحقد، مدحورة تمضي، تسدل أسمال الفشل على أفق معتم