الأميـرة كنـزة البرنوسيـة التـازية
بقلم : محمد العلوي الباهي
(كانت على قيد الحياة حوالي عام 213هـ/828م)
عاشـت خـلال فتـرة ازدهــار المسلميــن فـي العالـم
- ابـنــة ابـن عـبــد الحـمـيـــد الأوربـــي
- زوجــة المـولـى إدريــس بـن عبــدالله
- أَمّ المــولـــــى إدريــــــس الثـــانــــــي
- جــــــدة الأمـــــــــراء الأدارســــــــــة
*بقلم : امَحمد العلوي الباهي, كـاتـب وبـاحـث
الأميرة كنزة الأوْرَبـيّـة البرنوسية التازية المغربية، أشهر شهيـرات المغـرب اللـواتي ساهمن في إنشاء أول دولة قائمة الذات والكيان بالمغرب.. فهي زوجة إدريس بن عبد الله وأم إدريس الثاني وجـدّة الأمراء الأدارسة، وهي ابنة إسحاق بن محمد ابن عبد الحميد الأوربي(2)، فقد قامـت بدور ريادي كامرأة قدوة في العالم العربي والإسلامي عن جـدارة واستحقـاق..
فرغـم ما ذكرتـُه عنها في ترجمة زوجها إدريس وصاحبـه راشـد ووالدها ابن عبد الحميد فإن الكلام لم ينضب عنها وعن الفترة التي عاشتها إلى جانب هؤلاء الكبـار.. ورغـم شِـحّـة المصادر فإن ما بين أيدينا الآن من قديـم (وجديد باعتمادنا على دراسة في المنطقة) كاف لإظهار ما لهـذه المرأة من مكانة بارزة في إرساء قواعـد الدولة الإدريسية، وإلى أي مـدى كان نفوذها في السياسة الوطنية الإدريسية آنـذاك.
فترة الإزدهار الإسلامي في العـالم:
فمن حظواتها المتميـزة أنها عاشت في فترة تـُعـد من أحسن فترات الإسلام على الإطلاق.. نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث الهجري.(الثامن والتاسع الميلادي) يوم أمكنك أن تسمع عن الخليفة العباسي هارون الرشيد وهو يبعث للملـك الفرنجي شرلمان أمبراطور أوربا بهديـة وهي عبارة عن ساعة حائطية متحـركة رنانة من مبتكرات التكنلوجيا العربية آنـذاك.. فعند تشغيلها من طرف الصناع المسلمين لن يصدق الأوروبيون ما شـاهـدوه أمامهم..
فالكل يعلم ما كان للعـرب والمسلمين من تقـدم وازدهـار في كل المجالات الحضارية.. ويشهد بذلـك المنصفون من علماء الغـرب الأوربي قبل عـلمائنا.. فهذه موسوعة "جورج سارتـون" في تاريخ العلوم وهي تقسم حياة البشـرية إلى فتراتها الحضارية، تُـقـر أن الفترة ما بين القرن الثانـي والقـرن الخامس الهجري (الثامن والحادي عشر الميلادي) كانت فترة ازدهار المسلمين وحدهـم في العالم دون منافس.. وبعد هذا التحديد فقط ستستيقـظ أوروبة من همجيّـتها وسباتها العميـق..
قُـلـتُ في الفتـرة الإسلامية المزدهرة في العالم عاشت أميـرتنا كنزة واحتلّـت مكانتها في الحكم وعند الشعب.. وإذا أردنا هنا توظيف القولة الشهيـرة "وراء كل عظيم امرأة" وجدناها وراء عـظمة إدريس الأول ثم الثاني ثم الأمراء الأحفـاد الأدارسة..
وقد حذا حذوها في الحفاظ على العرش المغربـي عبر التاريخ أميرات مغربيات مثل زينب المرابطية والزهراء الوطاسية والسيدة الحرة، وخثانة الإسماعيلة.. فكانت قدوة ونبـراسا..
زيـارة أماكـن نشأتهـا ومرتعـها:
لم أبدأ.. ولم أتطرق للأهم.. فموضوع كنزة مشوق وكأنه كنز اهتديت لاكتشافه فبدأت الطريق، وكانت فرصة لإظهار حلقات هامة أُهمِـلـت في التاريخ المغربـي..
للتـروي أكثر والإقتراب من الشخصية وما حولها.. كـان لابـد أن أزور الأمكنة التي شهدت أحداث نشوء الدولة الإدريسيـة في بدايتهـا.. فجهزت نفسي أكثر من مرة ووقفت على أكثـر من معلمة وآثـار في رحاب قبيلة أوربة البرانس(3) شمال تازة على ضفاف "وادي لحضر".. وادي الحضارة والاستقرار.. ودون عناء كبيـر عثـرت على الحي الذي ولدت فيه كنـزة وتربّت؛ على الدار التي استضافت إدريس وولّته الإمارة وزوجته كنزة وقامت بأمره.. إنه الحي الذي يسمى الآن وبالعين والمشاهدة "دار الفرح" أو "دار القضاة".
وفي المكان شعرت بمهابة وجلال لم يشعر بهما من بحولي.. فأنا المشحون بوقائع التاريخ الإنساني، أتحسس نبضاته الحية في أماكنها الحقيقية الدافئة.. هناك استحضرت قول الشاعر المغربي مرددا بين الدور والأطلال:
من حولها انبثق التاريخ واحتضنت إدريس في ساحتي دار وإخوان
وزغــردت لـه قبل النـاس أوروبـة والدمع من كثـرة الترحيب هتـان
وأنا بأوربة بين القوم الذي قال الله في مثلهم "يحبون من هاجر إليهم..." عاينت المكان الذي نزل فيه الإمام إدريس.. تتجمع حوله إلى الآن عدة أشياء لها أكثـر من دلالة.. حي من الدور على وجه جبل يقابل الشمس عند شروقها، وساحة فسيحة للتجمع، خالية إلا من شجرة في الوسط، مُـسنـة، تتـوالـد وتتجـدد بتفرع جذورهـا، عمـرها يقارب ثلاثة عشر قرنا.. الساحة يجمعها بالجبل نهر لا ينقطع جريـانه حتى أيام القحـط.. وراء الجبـل قرية كاملة بمرافـقها: مسجد، زاوية، أضرحة و مجموعة دور متماسكة بنيت على أنقاض بنايات قديمة بجانب منحدر ممدود في اتساع مدينة يسمونها الآن "القـرية".. وهي بقايا وأطلال لازالت معالمها واضحة إلى الآن.. وقد علمت فيما بعد أن المهندس المعماري الفرنسي "جان جول باي" قد زارها ووضع تصميما لها.. ومنها تخرج الطريق غربا إلى جبل "زرهون" بجـانـب وليلى (فولوبليس).
ولعل هذه "القرية" هي المدينة التي جاء ذكـرها في كتاب "الاستبصار في عجائب الأمصار" باسم "سكـوما" عند ذكر أوْربة لما نزل ادريس بها. يقول النص: "وكانت أوربة آنذاك من أعظم قبائل بلاد المغرب، وكانت فيها مدن كثيرة منها مدينة سكوما.. وكانت مدينة عظيمة لم يكن بالمغـرب أعظم منها.. يقال أن موسى بن نصيـر لما دخل بلاد المغرب، نـزل مدينة سكوما وحاصرها حتى افتتحها عنوة... وكتب بذلك إلى أميـر المؤمنين الوليد بن عبد الملك بن مروان..".
وعن هذه المكاتبة جاء في كتاب "الإستقصا" يقول له: "إنه صار لك من سبي سقوما مائة ألف رأس ! فكتب إليه الوليد: ويحك أني أظنها من بعض كذباتـك، فإن كنت صادقا فهـذا محشـر الأمة".
فكيـف اهتديـت دون عناء إلى هذه البقعـة التي لايشـمّ المرء وهو فيها إلا الرائحة العبقة للتاريخ ؟.. الخبـرة بالأمور وحدهـا قد تساعـد على تجاوز الصعاب واختصار المسالـك.. ذلك أن الأمير الحاكم في المغـرب وفي كثيـر من البلاد الأخرى منـذ القديم يفضل إقامته في مكان وسط من رعـيته حتى يكون قريبا من الجميع.. فكانت نقطة تنقيبـي هي نقطة الوسط في قبيلة أوربة البرانس.. وفيها كان صواب هذه القاعـدة المتخـذة، ويسمى المكان الآن بالنخاخسة قرب الكـوزات. دائرة تايناست إقـليم تـازة.
فإدريس الأكبـر نزل على قبيلة أوربة وقاعدتها كانت هي سكومة.. لكن لما تولى الأمر كان عليه أن لا يبقى وسط قبيلـة.. فهو لجميع المغاربة كما أسلفنا، فاتخذ من "جبل زرهون" القريب من وليلي القديمة البناء (فولوبيليس) والتي كانت تحت نفوذ أوربة مقراً له في انتظار بناء مدينتـه.. وهكذا فببناء مدينة فاس أُخليـت منطقة "وليلي" الظرفية الإقامة.. وحفـظ التاريخ لإسـم وليلـي كان مقرونا ببقـاء صروحها الأثرية، وذكر نزول المولى إدريس بها كان من باب الاختصار في الرواية.. وتندثـر سكـومة كما اندثرت مثيلاتها من مدن أوربة..
والظاهر أن أهل أوربة البرانس المسمون عند ابن خلدون "بسكان المـدر" لتمثيلهم للحضارة والاستقرار. لم يعتنـوا كثيرا بالـعمران الذي ينم عن حضارتهم قبل مجيء الإسلام.. وذلك حتى لا يطمع طامع في أرضهم.. وقد امتنعوا عن الرومان وغيرهم كما جاء عند مؤرخ المملكة المغربية الأستاذ عبد الوهاب بن منصور إذ قال: "ولا يعرف في التاريخ أن دولة أجنبيـة عن المغـرب بسـطت على تازة سيطرتها قبل مجيء الإسلام".. وما يماثـل ذلك قاله البحاثة الدكتور عبد الهادي التازي في كتابه "رسائله المخزنية"..
ولما جاء الإسلام وقـلـدت أَوْربة المُلـك للأشراف في شخص الإمام إدريس.. فالأكيـد أنها من يومها تـركت الإمارة والقيـادة في نظـري لتعيش في هناء خارج أي صراع سياسي، وتحول كبارها من أمراء ورؤساء إلى فقهاء وقضاة وعلماء ينشرون العلم في كل الأصقاع.. وتزخر بذكـرهم كتب التاريخ والفقه والتـراجم وغير ذلك.
اختيـار الأخـوال:
إدريس الأول لم ينزل بهـذا المكان من أوربة حتى طاف بجهات من بـلاد المغـرب لمدة سنتين، لاشك وأنه خلال هذه المدة كان همّـه الثاني اختيار أخـوال أبنائه ولما زوجه كبير أوربة بنتـه كنزة (المترجَـم لها) والتي تذكر المصادر أنها كانت ذات حسـن وجمال وحياء وبهاء.. كاملة العقل والديـن تابعة لكتاب الله وسنة نبيه، كان لزواجه هذا بهذه الفتـاة أثـر حسن بيـن أخـوال (أبنائـه) فبايعـوه قبـل النـاس..
وهناك حِكمة بالـغة بين المغاربة تحُـثُّ القـادم على الزواج بأن يختار في السوق أخوال أبنائـه.. فقد يكون للأخوال فضل كبير في التنشئة والتكوين زيادة على تأثيـر الـدم والوراثة.. ويُـذكِّـرنا هنا العلامة عبد الله كنون في ما يشبه هذا الإستنتـاج عن شخصية مغربية من مشاهيـر الرجال فيقول: "فقد عهـدنا وراثـة الشاعرية عن الخـال من لـدن زمان المهلهـل وامرؤ القيـس".
وعندي أن السـر الخفـي في مبايعـة إدريس الثاني وهو في حجر أمه كنزة رضيعا ثم لما شبَّ.. كان ولم يكن إلا من قبل أنهم الأخـوال.
عند تطـرق الأستاذ أحمد البوعياشي في كتابه "حرب الريف التحررية ومراحل النضال" لانضمام قبائل شمالي تازة إلى الثـورة الريفيـة بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي: ذكر قبيلة البرانس هذه. وضمن الحديث نقـل عن قائدها آنـذاك المدعو محمد الخـلادي؛ رواية عن أوربة البرانس تقول: "إلى هذه الفرقة الأخيرة تنسب زوجة مولاي إدريس الأول كنزة الأوربية، وأن قرية أهلها تدعى دار الفرح من اسم جاء على لسان تلك السيدة، عند زفافها إلى مولاي إدريس.."
والراوي محمد الخـلادي كان قائـدا بوَربة على البرانس كلها مابين سنة 1911 و1924 وهو منها وإليها.. وقد استقى معلوماته من المخطوطات التاريخية والوثائق التي كانت متوفرة بكثرة عند الأهالي بتلك الجبال قبل التدخل الفرنسي.. فالمنطقة منطقة تاريخ بالدرجة الأولى.. والروايات التاريخية عند سكان المنطقة متوفرة وشائعة.
وفي مثل ذلك ماحكـاه لي أحد أبناء المنطقة وهو الأستاذ عبد اللطيف اليداري.. لما كان يدرس بجامعة القرويين اطلع عند أحد شيوخه على بعض أخبار الأميـرة كنزة ونسبها إلى هذه البقعة بالذات: دار الفرح بالنخاخسة بالكوزات.
ولما وقفـت بالمكان كما سبق؛ سألـت عن أشهر البيوتات فيه.. فكانت الإشارة إلى دار كـانت محكمة شرعية بالمنطفـة، لها مهابـة وذكر عند الأوربيين وتدعى "بدار لـقـْضة" أي دار القضاء.. وهم من أهـل ابن عبد الحميد وعشيرته التي تدرجت في سلـك القضاء إلى يومنا بعد أن تركت الرئـاسة لآل البيت..
بالمكان الساحة؛ وتحت ظل الشجرة يتم سنويا انعقاد تجمع ديني يسمى "بالـبـرية" أو "الـلامة" ويكون عليه إقبالا كبيرا ويتساءل الكثيرون عن سر هذا الإقبال العفـوي الذي لا يتـم على أي عنصر من العناصر التقليدية لعقد المواسم.. فلا يوجد بالمكان زاوية طُرقية ولا ضريح ولـيّ صالح ولا مسجد ولا خلوة.. وحتى البنـاءات بعيدة عن هذه المساحة.
فكل ماهناك مكان معلوم وظل شجرة وذكرى في التاريـخ.
بيعة المولى إدريس تحت شجرة البرّية كان تيمنـا بيعـة الرضوان:
إنه الحدث العظيم الذي لازالت ذِكـراه قائمة بأوربة إلى أيامنا هذه.. هذه المأثرة الفريدة يكون لي شرف الكشف عليها لأول مرة وبعد أن مـرّ على حدوثها ما مـرَّ من زمان على وصول الولى إدريس إلى المغـرب.
ذلك أن الشجرة الطاعنة في السن التي وُلـدت في تربة صخرية مع مجيئ الإسلام إلى هذه الديار وسط ساحة التجمع داخل قلب قبيلـة أوربة البرانس.
هي التي شهدت أعظم مشاهد التاريخ المغربي.. استقبال المولى إدريس أولا ثم زواجه بالأميرة كنزة ثانيا، وثالثا مبايعته على ما بايع عليه أصحاب رسول الله (صلهم) من السمع والطاعة..
ومن يومها أخذت مركزها عند قبائل أوربة البرانس.. فأحيطت بقدسية خاصة مثلما أحيطت أماكن وأشياء معينة حتى في فجر الإسلام بهالة من القدسية كالشجرة التي تمت في ظلها بيعة الرضوان.. يوم حاول كفـار قريش صد المسلمين عن دخول مكة. ثم سعوا في الصلح الذي سمي "بصلح الحديبيـة" مع النبي الكريم (صلهم) وقد نزل في ذلك قوله تعالى: {لقد رضيَ الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلِم ما في قلوبهم فأنزل السكينةَ عليهم وأثابهم فتحا قريبا} [سورة الفتح: 18].
وتيمنا بهذا الحـدث السعيـد بايعـت أوْربة وبعدها جل القبائل المغربية المولى إدريس تحت هذه الشجرة.. ومن وقتها وإلى أيامنا هذه يأتي الناس كل سنة إليهـا وإن كانت (بـرية) فإنهـا تنبـض بالإخضرار ؛ يأتـون قصد إقامة مثل ذلك التجمع وإحياء الـذكـرى الفـريدة من نوعها في تاريخ المغـرب، بل في التاريخ العربي الإسلامي.. وقد تجلَّـى ذلك أكثر في بقاء هذه الشجرة المغربية المباركة على قيد الحياة.. إذ استفاد المغاربة مِمّـا فعله الصحابي "الخليفة عمر بن الخطاب" لما أمر بقطع شجرة الرضوان زمن خلافته لما رآى تبـرك النـاس بها، وقد أصبحوا يعلقـون بها الفتائـل والخرق فخشي أن يعتقد الناس فيها اعتقـادا فاسـدا..
وَعْـيُ المغاربة بهذا الحـدث كذلـك جعلهم يقصدون الشجرة لا لذاتها وإنما إحياء للذكرى والتاريخ.. فلم يعلقوا بها فتائـل وخِـرق ولم يكـن لهم فيها أي اعتقـاد.
ومن غريب ما يلاحظ ويُعـد من الخوارق يمكن لأي إنسان مشاهدته الآن ومعاينتـه بالمكان.. ذلك أن الطيور تلجأ إلى هذه الشجرة وتبيت بها ولكنها لا تتغـوط بها البتـة الشيء الذي يمكن أن يحدث من أعلى أي شجرة.. فتبقى شجرة البرية هذه نظيفة ومكان ظلها نظيفا دائما من زق الطيور وغيره..
وسخّـر الله في حياة هذه الشجرة التي تقاوم على مـر الأحقاب الرياح والأعاصير القوية أصلها ثابت في الأرض وفروعها في السماء.. وكان نفعها في بقائها لا في ثمارها.. فثمارها "بـرِّيـة" لا يستعملها الإنسان ومنها سمِّـيَـت "البرية" ولما اجتمع الناس حولها قيل "لامة البرية" وإسم البرية (بتضعيف الراء) عربي المعنى والمفهوم وهو "الزيتـون الـبَـرِّي".. وفي جهات أخرى يسمونـه بالأمازيغية "أزمور" وهو ما ينبت في البراري.
أما عن اللامة فصيغتها عربية صحيحة ومعناها الدرع والجمع ويقال إلتـأم القوم أي اجتمعوا. والملاحظ عند أوربة البرانس الفصاحة، يتكلمـون اللغـة العربيـة ولا يتكلمون حتى في حياتهم اليومية لهجة خاصة ولا شلحية..
ثم أن مبايعة القوم لِأئـمَّـتهم عـادتْ من السُّـنَـن المحمودة.. فهذا المهدي بن تومرت الموحدي يقول "البيـدق" في أخباره: تمت مبايعته تحت شجـرة خـروب.
وعن تخليد مثل هذه الذكريات في حياة الأفراد والشعوب أذكـر ما فعله الطلبة الذين ساعدوا المولى الرشيد لما بايعوه بتـازة ومنها قام بالدولة العلوية في قصة سنأتي على ذكرها.. فخلـذوا الحادثة بإقامة حفلة سلطان الطلبة كل سنة..
وروابط المغاربة بهذه البيعة المشهورة ظهر مفعولها قويا على أيامنا هذه وقد تمكن المغاربة من تحريـر الصحراء المغربية من نيل الإستعمار الإسباني.. فلم تجد محكمة العدل الدولية صيغة لرفع الإلتباس إلا فتـوى وجود "روابط البيعة" المستدامة بين عاهل البلاد وأبناء صحرائه.. وكان أبناء أوربة ضمن وفد إقليم تازة في طليعة المسيرة الخضراء بعد الرشيدية يدافعون عن هذه البيعة.. كان لهم ذكر قد يأتي الكلام عنه.. ومن السنـن الحميدة كذلك عند المغاربة الآن تقديم البيعة والولاء لعاهل البلاد كل سنة عند حلول ذكرى عيد الجلـوس على عرش الأجداد.
لاَمَـــة البَــرِّيـــة:
كان بوِدي أن أقدم وصفا مسفيضا لما يروج بلامة البرية طيلة سبعة أيام بلياليها.. ولكن الكلام عن الأميرة دون الأخذ بالفروع لازال ملحا، وقد يقال أنني أطلت في هذه الترجمة والواقع أنني اختصرت الكثير الكثير.. ولما كان ولابد للامة البرية من ذكر فمرور الكرام:
يقوم بتنظيمها (الطلبة) فقهاء المنطقة تحت إشراف "مقـدم" يختارونه فيما بينهم، يجلسون تحت ظلها يتلـون القرآن الكريم طيلة أسبوع، تأتي القبائل خلاله جماعات جماعات في ترتيب منظم حاملة معها (المونة) المـأونـة أو الهدية.. ويأتون كذلك فرادى وجماعـات من كل جهة بالمغرب وذلـك قصد الزيارة والمشاركة وسماع كـلام الله والتماس الدعوات الصالحات من (مجمع الطلبة) بهذا المكان لمرضاهم ولأغراضهم الاجتماعية المختلفة كالزواج والمعاملات والنجاح في الحياة وما إلى ذلك..
وتقوم بالساحة خارجة السور المحيط مع أروقتـه الداخليـة بالشجـرة بين الفينـة والأخـرى أهازيـج شعبية تُظهـر مـدى فرحة المغاربة بهذه الذكرى.. فيُنظـم سباق للفروسية ويفرقـع البـارود وسـط زغاريـد النساء وطبـول فرقـة الخيالـة.
وتُستضاف السلطـات، فينظـم اسقبال لها.. ويطعم الطعام لكل الزوار بدون استتنـاء طيلة وقت اللامة..
وعند انتهاء الموسم يسعى الناس في لهف إلى شراء الماعون الذي استعمل في هذا الجمع، كالصحون والأكواب وغيـرها.. فيأخذونـها إلى منازلهـم بـركـة وذكـرى..
إنه موسم لا كالمواسـم المغاربيـة إذ يمتـاز عنها بهذه الخاصيات المذكورة، فيجـب أن نكـن لهذا الجمـع تقديسا واحترامـا يلائـم خصوصيـة الإنسان المغربي الذي حافظ في مكنونه على روح الذكرى وقيـم الحـدث.
مؤرخ المملكة يطّـلع على مكان زواج المولى إدريس بالأميرة كنـزة الأوربية:
فيما يخص زواج المولى إدريس بالأميرة كنزة جـرت مراسلة بين أحد شباب تازة المثقـف وهو الأستاذ محمد جدوعة المشرف (زمن المراسلة) على المجموعة التربويـة بدائرة تايناست وبين مؤرخ المملكة المغربية بالربـاط الأستاذ عبد الوهاب بن منصور..
أثار الصديق محمد جدوعة انتبـاه مؤرخ المملكة إلى ما يحمله موسم البرية من دلالة تاريخية واضعا جملة من الحيتيات والطروح كمدخل للتساؤل عن تحديد مكـان تواجد قبيلة وربة.. مما جاء في رسالته الاستفسارية:
"والموسم متجدر في طيات التاريخ، ويحكي الخلف عن السلف أن منشأ هذا الموسم يعود تاريخيا إلى أيام دخول المولى إدريس الأول، حيث عقد قرانه بكنزة في ظل الشجرة المذكورة، تليت خلاله الفاتحة بحضور جمهور من سكان قبيلة أوربة.؟"
وكان جواب الأستاذ عبد الوهاب بن منصور فوريا، اقتطفت منه هنـا ما يثري هذا الموضوع:
".. فلا يبعـد أن يكون بناؤه (إدريس) بكنزة أم إدريس الثاني قد تمَّ تحت الشجرة ولا يخفـى على جنابكم أن السماع الفاشي مما يعتـدُّ بـه القضاء والمؤرخون معا، فما دام الأمر شائعا بين سكان قبائل تازة التي لم تتحول عن مواطنها منذ عصور قديمة وما داموا يقيمون تلك المواسم منذ أزمان فإننا نستأنس تاريخيا بروايتهم، وعلى أي حال فإن حاستي السادسة تـؤكـد لي أن الأمر صحيـح. وأشكركم على أن أخبرتموني بذلك وزففتـم إلي بشارته، بل أنني أنوي أن أحضر بنفسي في موسم يقـامُ تذكيـرا بزواج جـدي بجدتـي، بل بجد المغاربـة أجمعيـن.."
الأميرة كنزة تمارس السياسة والحكـم:
أميرة بنت أمير وزوجة أمير وأم أمير وجدة أمراء.. لما مات زوجها إدريس بن عبد الله، ظهرت على مسرح الأحداث. وقد اتجهت "لحملهـا" الأنظـار.. فولـدت وربت وساست إلى أن خلف الإبن أباه.. وعندما مات والدها تسلحت بالصبر ووعت أنه لابد من التضحية ليستقيم أمر هذه الأمة. حتى إذا مات ولـدها الوحيد إدريس الثاني ظهــرت ثانية لتُـوجِّه الأحـداث وتشارك في تدبير الحكم حفـاظـا على هبـة الدولة وسلامتهـا.. فأشارت على أكبر حفدتها وهو محمد بن إدريس بتولي خلافة والده في الملـك على أن يُـقلد إخوته الثمانية الكبار عمالا على الأقاليم تحت إمرته تلافيا لأي شجار وأي انقسام..
ونجحت في هذا المسعى السياسي أيما نجاح، الشيء الذي جعل تأثيره يصل إلى ما وراء الحدود المغربية وينتشر صداه في الدولة الأفرنجية فتقلـده وتنهج منهجه، لما تمر على تجـربته بالمغـرب ستة عشر سنة، إذ كانت وفاة إدريس الثاني وتولية حفدتها للحكم عام 213هـ (828م).. فيجتمع حفدة الإمبراطور شارلمان حوالي عام 229هـ (843م) ويقسموا فيما بينهم إمبراطوريته بعد أن يكون قد مـر على وفاته ثلاثون سنة قضوها كلها في قتال مريـر..
فكانت معاهدة فردان (Verdun) بين الأحفاد الثلاثة: لوثيـرالأول (Lothair I). ولويس الجرماني (Lewisthe German)، وشارل الأصلع (Charles The Bald)، وهذا التقسيم هو الذي وضع أساس كل من فرنسة وألمانيا.
فلولا كنزة لما كان إدريس الثاني ولا الأدارسة، ولولاها لما كانت فاس ولا جامعة القرويين.. كل ما أدرجناه في ترجمة الأميرة كنزة يعد قليلا من كثير.. لقد تبوأت مقدمة الأميرات المغربيات اللواتي ساهمـن في تدعيم الدولة المغربية وإرساء قواعدها عن جدارة واستحقاق.
وكما لم يعرف بالضبط تاريخ ولادتها فإننا لم نعثر أيضا على تاريخ وفاتها بالتدقيق فقد عاشت بدار الملـك بفاس بعد وفاة زوجها (213هـ/ 828م) إلى جانب الأمير المتـوَّج محمد الأكبر مُكلفـة بحفدتها الثلاثة المتصاغرون عن الولاية.
ولاشك أنها كانت تزور بين الفينة والأخرى حفدتها الآخرين بالأقاليم المغربية ومنهم حفيدها داوود بن إدريس الثاني الذي ولي على إقليم تازة المشتمل على بلاد هوارة وجبال غياثة وبلاد مكناسة وتسول وكذا بلاد أوربة البرانس.. وهو يشابـه التقسيم الذي هو عليه الإقليم على أيام كتابة هذه الترجمة.. ولا نعلم هل امتـدَّ بها العمر حتى شاهدت مسجد حفيدها داوود هذا، بمدينة تازة "جامع السوق" والذي بناه سنة 263هـ حسب ما جاء في لوحته الخطية التي توجد الآن بمتحف البطحاء بفاس كأقـدم أثر مغربي عربي إسلامي كما سنوضح في ترجمة هذا الأخير.
وإن غفل التاريخ شيئا عنها فإنه لم يغفل مزارها حيث ضريحها بالزاوية الزرهونية مع زوجها بإزائة.(4)
بقايا القصر الذي كانت تنزل فيه الأميرة كنزة لما كانت تزور حفيدها الأمير داوود بمدينة تازة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) - صورة الأميرة كنزة بريشة الفنان محمد خلوف (كما تخيلها).
2) - لقد شكك بعض المغرضين في أبويته لها مثل ما شككوا في صحة:
- خطبة طارق بن زياد.
- ومساعدة المنصور الموحدي لصلاح الدين الأيوبي بالأساطيل الحربية لحماية القدس وسواحل الشام.
- و دخول الأعداد العربية المغربية إلى أوروبا من المغرب.
- وصناعة المغاربة للبارود قبل غيرهم.
- ووصول المغاربة إلى أميريكا قبل كلومبوس.
وكل هذه القضايا هي مواضيع بحث عندي.
3) - أوربة البرانس.. نسبة لجدهم الأكبر أورب بن برنس بن كنعان بن حام عليه السلام
4) - نص هذه الترجمة مأخوذ من كتاب "المرأة المغربية عبر التاريخ أو الأميرة كنزة زوجة المولى إدريس الأول" لمؤلفه: امَحمد العلوي الباهي. مطبعة: دار الثقافة للطباعة والنشر بالرباط 1988.