اظهرت التجارب السياسية المعاصرة ان الاعلام ووسائل الاتصال الحديثة نجحت في اغواء الحكومات التي ادركت اهمية الادوار الجديدة التي تقوم بها وسائل الاعلام “كبديل ” للممارسة الديموقراطية خصوصا بعد ان احتل الاعلام والاتصال المساحة المخصصة لممارسة الفعل الديموقراطي واصبحت هذه المسافة هي ذاتها المخصصة للإعلام ولذلك لم يعد الاعلام يمثل السلطة الرابعة او الخامسة بل اصبح يشغل المجال الشفاف بين الفعل السياسي والثقافي ورد الفعل الجماهيري ومن هنا اصبح ينظر اليه باعتباره المعيار الذي يقاس به كفاءة الاداء العام للحكومات والنظم السياسية القائمة كما ادرك السياسيون الحكوميون والحزبيون الدور المؤثر للإعلام المعاصر في بناء وتوجيه الراي العام واحداث التغيير الاجتماعي ولقد انتبه المسؤولون الحكوميون في بلدنا الى اولوية الاعلام والاتصال في الحياة السياسية المعاصرة مقتنعين بان من يسيطر على الاعلام وتكنولوجيا الاتصال يستطيع ان يسيطر على مراكز القوة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ويستطيع ان يتحكم في مصائرها وان من يهمل هذه الوسائل سيفقد التحكم في تنظيم العلاقة بين السلطة والمواطن وهو ما اعترف به عضو الامانة الجماعية لحزب الاصالة والمعاصرة وزير الثقافة والشباب والاتصال محمد مهدي بنسعيد في كلمة له في اجتماع الاغلبية الحكومية بمقر حزب الاستقلال بالرباط في كلمة اوردتها العديد من المنابر الاعلامية الالكترونية وعرض فيها وزير الاتصال العديد من الاشكالات لدى الحكومة الحالية كملف التشغيل – وملف الحماية الاجتماعية – وتسريع تأهيل المنظومة الصحية – وتنزيل اصلاحات قطاعي التعليم والتكوين … لكن كل هذه القضايا والاشكالات وانجازات الحكومة تحتاج في نظره الى من يوصلها للمواطن عن طريق الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وقال ان (التواصل يبقى المجال الذي يجب ان نشتغل عليه اكثر – يقصد الحكومة – ونقولها بكل شجاعة ومسؤولية وفي نقد ذاتي ان هذه الحكومة اتخذت قرارات صعبة وجريئة وواجهت تحديات خارجية واذا كان اثر هذه القرارات لم يصل الى المواطنات والمواطنين فان المشكل في التواصل )
فهل يبرر وزير الاتصال “فشل” الحكومة في مشكل التواصل !!
في اطار الحكم على هذه الحكومة وفشلها في امتحان (التواصل) لابد من التأكيد عن وجود ترابط عضوي بين ازمة الصحافة والاتصال وازمة المجتمع ونظمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بل ان مشكلة الاعلام والصحافة هي مشكلة الحرية والديموقراطية حيث لا يمكن مطالبة الصحافة الوطنية الرسمية او المستقلة بالانفتاح وتناول القضايا المجتمعية والوطنية دون مطالبة السلطة الحكومية بإدخال تغيير في الرؤية السياسية وتعميق الحرية والديموقراطية وفي اسلوب ممارسة السلطة والمسؤولية.
فهل من سبيل للخروج من هذا المأزق الراهن للصحافة والاعلام؟ وكيف يمكن ان نبني صحافة ذات مصداقية وذات فعالية وتحظى بالاستقلالية ؟؟
اننا لا نحلم حين نقر ان الصحافة والاعلام يمكنهما ان يحققا استقلالهما دون مطالبة السلطة القائمة بإدخال تغيير جذري في تركيبه البنيوي وفي رؤيته السياسية وفي موقفه من قضية الحرية والديموقراطية.
الصحافة مثلا في النظام الشيوعي هي صحافة الحزب الحاكم وفي النظام الراسمالي هي ملك للشركات الصناعية او المالية الضخمة تعبر عن مصالحها ورؤاها السياسية وفي الانظمة الديموقراطية الحقيقية تمثل عنصرا فعالا في التنشئة الاجتماعية والسياسية وتعمل على تمليك الجماهير والراي العام ما يكفي من المعلومات التي تساعد على المشاركة في صنع القرارات الوطنية.
ان الإعلام والاتصال يستطيع ان يعمل لصالح الديموقراطية كما يمكن استخدامه لمحاربة الديموقراطية في نفس الان فالأمر يتوقف على من يسيطر ومن يتحكم في وسائل الاعلام ومن الذي يستفيد فعليا من هذه الوسائل وفي اي ظروف تعمل وسائل الاعلام.
ان الاعلام العمومي في مجتمعنا يعكس المواقع الهامشية التي يشغلها جمهور المتلقين او المواطنين او جمهور العامة حيث يتعامل معهم الاعلام العمومي باعتبارهم مستهلكين وليسوا مشاركين او محاورين مما يفرغ العملية التواصلية او الاتصال من محتواه كعملية اجتماعية او سياسية او ثقافية وذلك بقصر ادوار الاعلام العمومي على الوظيفة الاعلامية ذات الطابع الاقناعي الدعائي في اغلب الاحيان.
الصحافة والاعلام عندما تتحولان الى بوق دعائي في فم الحكومة فإنها تفقد مصداقيتها لدى الراي العام وعندما تفقد الصحافة حريتها في الاخبار والاعلام وقدرتها على الاقناع تنهار ثقتها في نفسها وثقة الراي العام بها.
وجاء في نفس الكلمة المقدمة باسم الحزب تشديد السيد وزير الاتصال ان (زعماء الاحزاب واعضاء الحكومة والقيادات السياسية والبرلمانيين مطالبون بالتواصل المباشر مع الراي العام الوطني بخصوص القضايا الوطنية الراهنة وخلق النقاش العمومي ومع الاعلام الدولي بخصوص مصالح بلادنا العليا وما حققته بلادنا من منجزات)
في هذه الفقرة من العرض المقدم من قبل السيد وزير الاتصال اشار الى ان الاحزاب وربما يقصد احزاب الاغلبية الحكومية وقياداتها واطرها وبرلمانييها مطالبون بالتواصل المباشر مع الراي العام الوطني كما التنظيمات القطاعية والمهنية وسائر قوى المجتمع المدني وكل التيارات الفكرية جميعها لها الحق في خلق وسائلها الاعلامية والاتصالية الملائمة لها لخلق نقاش عمومي حول مصالح الوطن والمواطنين لكن السيد الوزير وهو في نفس الان كائن سياسي وقائد حزب يعلم الاشكاليات العميقة التي تعاني منها الاحزاب المغربية بالشكل الذي حولها الى اشكال تنظيمية غريبة عن محيطها ومفصولة عنه ومنه مشكل التواصل بما يعنيه من حسن تدبير المعلومة والاخبار والديموقراطية الداخلية والعلاقة الناظمة ما بين المركز والفروع المحلية والجهوية واتخاد القرارات…
ان ما يثبته الواقع ان ممارسة الديموقراطية داخل الاحزاب السياسية الوطنية تعد البعد الغائب في الممارسة الحزبية وتترتب عن هذه الوضعية ان الحزب يصبح حزبا مغلقا لا ينفتح الا للأعضاء الذين باستطاعتهم قبول الفضاء التقديسي للزعيم ويقصى كل راي معارض ولا يسمح بالنقاش الحر والمجادلة بل كل ما يفوه به لسان الزعيم صالح “للإيمان” به والعمل به وهكذا حولت احزابنا مناضليها الى جيش احتياطي يصلح لتأثيث المؤتمرات والاشتغال في الحملات الانتخابية كأصوات للاحتفاء والتشجيع.
ان الاعلام باعتباره جسرا مهما في مجال التواصل السياسي تثقيفا ومساهمة في صنع الراي العام الا اننا نجد ان هناك شحا في النقاش السياسي وغموضا في المواقف والطروحات والمقاربات الحزبية للقضايا الوطنية الراهنة وهو ما ولد شعورا لذى الجمهور المتلقي بكون الاحزاب لا تملك اي تصور للإشكاليات المجتمعية بل تنتظر هي الاخرى ما “سيوحى اليها” به (قاشي مولاي الكبير)
وتستعمل احزابنا العديد من وسائل التواصل المعتادة واهمها صحافة الجرائد الحزبية لتقوم بدور الدعاية وارسال الرسائل والمناقشة الحزبية الا ان درجة مقروئيتها وصلت الى مستوى مخجل مقابل الصحافة والمواقع الالكترونية “المستقلة” مما يطرح اسئلة مؤرقة من قبيل: هل مشكل تراجع هاته الصحافة الحزبية مرتبط بالاستراتيجيات السياسية للأحزاب المعنية بلسان حالها ؟ او بسبب ازمة الثقة المجتمعية في الاحزاب؟
وفي نقطة اخرى اعتبر الوزير ان ( التواصل لا يجب ان يبقى منحصرا في وسائل الاعلام التقليدية لان هناك جيلا صاعدا مهتما بالسياسة وبالفعل السياسي يقضي يومه في وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة ونحن في حاجة لنقاش مع الشباب بخصوص اولوياته والاجابة على انتظاراته )
عرفت بلادنا تغييرات مهمة في بنائها الاجتماعي وتغييرات سريعة ومتلاحقة في تكنولوجيا الاتصال لذا فانه كان من المفروض ان تساهم هذه التكنولوجيا الاعلامية في تحقيق العديد من الاهداف الوطنية وخدمة الشأن الثقافي والتعليمي والصحي والبيئي والحفاظ على التراث والارث المادي والرمزي وتحقيق التكامل والتضامن الوطني وتحفيز عملية التغيير والمساعدة في عمليات التنمية لكن مع الاسف لم تضع الحكومات السالفة والحالية مخططات وطنية تستهدف السياسة الاتصالية بكل تفرعاتها وانماطها تقوم على المشاركة لا على فرض الراي الواحد / تدعم الاحساس بالمواطنة والانتماء والرغبة في المشاركة في بناء الوطن/ الاسهام في تشكيل الهوية الثقافية المتعددة / الحفاظ على القيم الدينية والحضارية وحماية الثقافة الوطنية/ تنمية ملكات التعليم الذاتي والتفكير العلمي / تطوير الشخصية من التربية المحدودة الى التربية الشاملة …
اننا لم نستطع ان نساعد شبابنا اثناء استعمال هذه الوسائط الحديثة للرفع من مستواه الثقافي والتعليمي ولا على ترشيده وحمايته من مخاطر التبعية الثقافية والاعلامية مما يقتضي بالضرورة ان تتشكل السياسات والممارسات الاعلامية لتلبي متطلبات هذا الجيل الجديد التواق للتغيير ومساعدته وترشيده حفاظا على التوازن الاجتماعي المنشود.
ان غياب سياسية حكومية لتنمية وتطوير هذا القطاع بل وفي غياب دراسات علمية واحصائية تقوم على جمع البيانات واجراء البحوث وتقييم الاحتياجات (ماذا نريد ؟ ماذا يريد الشباب؟ ماذا …ماذا؟) في غياب كل هذا تحولت وسائل الاتصال الحديثة وخصوصا وسائل التواصل الاجتماعي الى ادوات للإثارة وتبادل حملات التهييج والشتائم والتنمر بدلا من ان تقوم بدورها كأدوات للتنوير والتواصل.
ان السياسة الاعلامية الرشيدة ليس هو الاهتمام الزائد بالنشاط الحكومي والدعائي الموجه وانما السياسة الاتصالية عليها التأكيد على حرية الافراد في التعبير عن آرائهم وحرية الاتصال داخل اطار نظام يحقق متطلبات الحوار الديموقراطي في المجتمع.