محكمة الفيسبوك : قضاة في النار
قلم : سعيد صابر
أي شخص يتصفح مواقع التواصل الاجتماعي ، لابد له أن يصادف مشكلة من المشاكل الاجتماعية أو الشخصية أو القانونية التي يقوم البعض بنشرها على الملأ ، و بعدها تتفنن المواقع الإلكترونية التي أصبحت منتشرة كالطفيليات في امتدادها أو حجبها حسب حجم المشاهدات و اللايكات التي أنتجتها هذه المشكلات تبعا لخوارزميات أصبحت معروفة للغالبية.
لا أحد يشكك في أن بعض هذه الفيديوهات قد أنصفت العديد من الناس ، لكن في المقابل أكيد أنها دمرت حياة الكثير.
لن أحدد فيديو معين بقدر ما يهمني هو السطوة التي وصلت إليها وسائل التواصل الاجتماعي، فأي شخص مهما كان إذا أردت أن تجعله جلادا، ماعليك سوى شيطنته من خلال تصرح أو إثنين ، و إذا أردت أن تجعل منه ضحية فنفس العملية يمكن أنجازها بالطريقة نفسها ، لكن سواء صرت ضحية أو جلادا فالمشكل يكمن في استسهال عملية الحكم على الناس بقيمة ما دون تبين الحقيقة ، فالمشاهد أو المعلق دون أن يدري نَصَّبَ نفسه قاضيا يحكم على هذا بالبراءة لأنه أحس أنه يقول الحقيقة و يحكم على الآخر بالإدانة لأنه لم يعجبه في شكله أو طريقة لباسه.
قبل الإسترسال لا بد من أن نتفق على أمر مهم: كلام الله يعلو و لا يعلى عليه لذا الإستشهاد الأكبر سيكون من القرأن الكريم ، قال الله تعالى في كتابه العزيز:
: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات، 6). من هذه الأيات الكريمات يتبين أنه من الواجب التروي في إطلاق الأحكام والتثبت والتبيّن قبل نعت شخص بصفة ما. فالحكم على الناس يشمل كل الأحكام التي يصدرها الأشخاص حول بعضهم أو على مجموعات أو قبائل أو مجتمعات أو أحداث، وهي في الغالب أحكام قيمية أو وصفية، في الغالب انطباعية لا تحتكم للمنطق أو العقل. كما تمتاز في الغالب بالتسرع وعدم التثبّت، وتنبئ عن حب عميق في التميّز بإصدار الأحكام جزافا من طرف من ليس أهلا لها وفي غير محلها، ولا أحد ينتبه أن مثل هذه الأقوال و الأفعال هي الغيبة والنميمة التي نهى عنها ديننا الحنيف، كما أن الفراغ والعبث و"قلة ما يدار" حسب التعبير العامي تجعل إصدار مثل هذه الأحكام عبارة عن مسابقة للافتخار أن فلان حكيم و يعرف الحقيقة في كل شيء فتراه يفتي في كل القضايا و يوزع صكوك الغفران و أحكام القيمة على كل الأشخاص، و كأنه المقياس الذي يجب أن نمشي عليه: فلان رائع، جميل،، علان طالح، سيئ، ، فلان أو فلانة الرجولة ، فلان لا يستحق ما وصل إليه ...... و غيرها من الأمور ، بل ويتعداه إلى الحكم على الحياة الشخصية للناس التي صارت مشاعا و مباحة للجميع، مع التذكير ان كل هذا الأمور ليس لها نفع لا دنيوي و لا أخروي لو نظرنا لها من منظور عقلاني.
من الواضح أنه من الصعب على الإنسان بصفة عامة و على ساكنة القرن الواحد و العشرين في ظل طوفان وسائل التواصل الاجتماعي ان يلعب دور الحياد فيما يحدث و يجري حولها ، لكن هذا الوضع لا يعطينا الحق في إصدار أو توزيع الأحكام الاجتماعية والقيمية عشوائيا.
فالأحكام الحقيقة بالتنفيذ هي ما يصدر عن القضاة وأصحاب الاختصاص، ومع أن القانون و الدستور يعطيهم حصرا هذا الحق إلا أن بعضا من أحكامهم تبقى نسبية رغم أصدارها بعد وقت من التروي ،و التدقيق في البحث واستدعاء الشهود وفحص الوثائق، وكثرة المرافعات وتعدد الجلسات، وبقاء الحكم متدرجا بين المحاكم الابتدائية والاستئناف و النقض أحيانا، ومع كل هذه الإجراءات تبقى الحقيقة المطلقة عند لله وحده، وهو ما يمكننا استخلاصه من حديث أفضل الخلق محمد "ص" حين قال:”إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار” (الموطأ، 587).
ولذلك فإن أحكامنا مهما بلغت من التحقيق فإنها ستبقى نسبية وموقوتة بالظروف المحيطة بها ، وعلومنا ستبقى منقوصة، ولذلك جاء الأمر بالعدل في المواقف والتثبت في الشهادة في قوله تعالى: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} (النساء، 135).
الأمر الآخر الذي حذرنا منه الله تعالى و أعطانا مثالا واضحا عليه هو عدم الإكتفاء بسماع الوقائع من شخص واحد بل علينا الإستماع للجميع و بنفس الطريقة حيث قال في محكم قوله تعالى:
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴿21﴾ إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ ﴿22﴾ إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴿23﴾ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ۩ ﴿24﴾ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ ۖ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ ﴿25﴾ سورة ص
لذا قبل الحكم على الناس يجب أن نتبين ، و حتى إذا عرفنا بعضا من الحقيقة فإننا نتغافل عن أمر مهم يتمثل في عدم معرفتنا و جهلنا بظروف الناس وأحوالهم، فكم من امرئ تحمل نظرات و كلام الناس فقط لأنه لم يستطع البوح بعذره و هذا أمر واقع, فما كل أحد يستطيع التحدث بعذره لكل من هب و دب ، بل قد يخبر به فقط ذوي الإختصاص الذين خول لهم القانون ذلك.أما نحن الأشخاص العاديون فعلينا التماس الأعذار لبعضنا إذا عرفناها أو نقول : لعل له عذر لا نعرفه. فمن أسباب الهلاك الإشتغال بعيوب الناس و هتك الأستار و التغاضي عن عيوبنا.
و لا نتمنى أن نكون قضاة في النار و نحن لا ندري ،يقول النبي صلى الله عليه وسلم: القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة. رجل قضى بغير الحق فعلم ذاك فذاك في النار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاضٍ قضى الحق فذلك في الجنّة" و هذه الصفات تنطبق على قضاة مواقع
التواصل الاجتماعي الذين يرمون الناس بالأحكام جزافا، فلنترك القضاء لأهله هم الأعلم بخبايا الأمور و هم من خول لهم القانون و الشرع فعل هذه الأشياء .لأن استسهالنا الحكم على الناس و توزيع صكوك البراءة أو الإدانة قد براه البعض هينا لكنه عند الله ذنب عظيم، فاتقوا الله في أنفسكم لعلكم ترحمون