دَمنات مدينة التعايش بين المسلمين واليهود
قلم ذ : عبد اللطيف هِسوفْ
قبائل فَطْوَاكَة، المحيطة بمدينة دَمْناتْ، واحدة من أهم قبائل هَسْكورَة الكبيرة التي تزعمها أواخر الدولة الموحدية عمر بن وقاريط، ثم أصبحت الرئاسة فيها لبني خطاب الذين استعصوا على سلاطين بني مرين، كما نقل ذلك العلامة ابن خلدون. وقد كان هؤلاء الهَسْكوريون ملجأ للنازعين عن الطاعة من العرب ومأوى للثائرين الأمازيغ على سلطة الدولة المُتمركِزة غالبا بمدينة مراكش. وعلى الرغم من التمرد الغالب على طباع الهَسْكوريين على السلطة المركزية، فإنهم دافعوا عن حوزة الوطن مرات عديدة، حيث إنهم جاهدوا إلى جانب الأمراء الوطاسيين حين تسلل المستعمر البرتغالي إلى السواحل الغربية للمغرب خلال القرن السادس عشر الميلادي، كما حاربوا تحت راية العلويين حين دعاهم السلطان سيدي محمد بن عبد الله للدفاع عن مدينة الجديدة نهاية القرن الثامن عشر؛ واستقر عدد لا يستهان به من هؤلاء الهسكوريين بعيدا عن جذورهم، حول محيط مدينة الجديدة، وتَعَرَّبوا على مَر الزمن، وهم اليوم ضمن قبائل العثامنة بدائرة الزّمامْرَة بدُكّالة وقبائل البْزاوَة المنتسبين في أصلهم إلى منطقة بْزُو المحاذية لمدينة دَمْناتْ.
مدينة دَمْناتْ، بسورها العظيم، استطاعت أن تقي نفسها من هجمات المتآمرين، خاصة أنها كانت ملجأً للمعارضين، فمولاي رشيد العلوي، الذي كان ملكا على المغرب في القرن السابع عشر الميلادي، يدين لها بالكثير؛ لأنها حمته وجعلته يُكَوِّن جيشه ضد أخيه مولاي أحمد، بعد أن تغلب عليه هذا الأخير وطرده خارج قلاع الحكم في مراكش. وقد ورد ذكر مدينة دَمْناتْ وقصبتها في كتاب “وصف إفريقيا” للرحالة الحسن الوزان، الشهير باسم “ليون الإفريقي” عندما زارها سنة 1514م، فقال: تضم المدينة عددا كثيرا من الدباغين والسراجين وغيرهم من الصناع، وفيها الكثير من اليهود، بعضهم تجار وبعضهم صناع. وإذا أراد أحد التجار الغرباء أن يذهب من مدينة إلى أخرى فعليه أن يصطحب حرسا قويا، لذلك فإن كل واحد منهم يستأجر عادة مسلحا ببندقية أو قذّافة بأجرة شهرية تتراوح ما بين 10 مثاقيل و12 مثقالا بالعملة المحلية. كما ورد ذكر هذه المدينة في مذكرات الرحالة الفرنسي شارل دوفوكو عندما زارها سنة 1884م، فقال: وقد كان يبلغ عدد سكان مدينة دمنات نهاية القرن التاسع عشر ثلاثة آلاف نسمة تقريبا، ضمنها ألف يهودي كانوا يسكنون مع المسلمين.
كانت تحيط بمدينة دَمْنات في سابق عهدها حدائق غناء جذابة، كانت تعد من أوسع بساتين المغرب، ومن أشهرها بساتين “أيت أوعاودانوس”، والتي كانت في ملكية الإقطاعي الأمازيغي علي أولحسوب، وهي عبارة عن غابة من أشجار الزيتون وأشجار الفواكه؛ لكنها تعرضت للإتلاف بعد أن نَكَّبَ رجال السلطة بصاحبها بغتة نظرا لنفوذه الواسع في المنطقة، فأُلقي عليه القبض وأُرسل إلى سجن الجزيرة بموكادور، واشتهر في معتقله باسم الدَّمْناتي، ومكث هناك سنوات عديدة، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن تنازل عن جميع ممتلكاته للفاسدين من رجالات السلطة حينها، إلا أنه لم ينعم بحريته طويلا إذ مات فور خروجه من باب السجن نظرا للوهن الشديد الذي أصابه.
كانت تجارة دَمْناتْ تمتاز بالرواج، تقصدها قبائل الأطلس والصحراء لتتزود بالمواد الأوروبية والمواد المصنوعة بالمدن المغربية من أنسجة قطنية وسكر وشاي وعطور ومجوهرات وأحذية وحبوب. وبالمقابل، تحمل هذه القبائل إلى دَمْناتْ الجلود والصوف والتمور؛ لكن عندما عَينت السلطة المركزية بمراكش أحد الأمناء الجشعين أثر ذلك في حركة تجارة دَمْناتْ بفرض ضريبة تعسفية مرتفعة أفضت إلى هجرة تجار القبائل لسوقها، فتحول نشاطهم إلى مراكش. ثم تلا ذلك هجرة اليهود إلى فلسطين؛ مما أثر سلبا على اقتصاد المدينة، خصوصا أن اليهود كانوا يمثلون عصب التجارة بالمدينة.
لا يُعرف وقت محدد لسكن اليهود بمدينة دَمْناتْ؛ لكن الرأي السائد هو أنهم سكنوا أنحاء المدينة قبل تأسيسها.. وأول ما استقروا في المنطقة، تواجدوا في قرية اسمها “بوحَلُّو”، وهو مكان إستراتيجي كان يشكل ملتقى تجاريا بين فاس ومكناس من جهة، ومراكش وجنوب المغرب من جهة أخرى.
إن براعة اليهود حينها في التجارة والصناعة اليدوية جعلتهم يستغلون المنطقة لصالحهم، إلى أن تمكنوا من بناء حيهم المعروف بـ”المَلاّحْ”، والذي يُعدّ أقدم بأربعة قرون من مَلاّحْ مراكش. ثم تلا وجود اليهود بدَمْناتْ حضور مجموعة من الراهبات المسيحيات اللواتي فضلْن البقاء بالمغرب وعدم الرحيل نحو أوروبا بعد استقلال البلاد، وقمن بمجموعة من الأعمال الخيرية كتوليد النساء في وقت لم تكن المدينة تتوفر على مستشفى أو حتى مستوصف. ولم يثبت أبدا أن كن ينشرن التبشير؛ بل إن عشقهن للمدينة جعلهن ينسجن علاقات حب مع ساكنتها إلى سنة 1984م، تاريخ رحيلهن نهائيا نحو فرنسا.
“تَاعِنيتْ”: أرض الاحتفال
كلمة “تَاعِنيتْ” تركها اليهود خلفهم بعد هجرتهم إلى فلسطين – كاسم للمنطقة − ليذكروا الأمازيغ بأن الحياة تستحق الاحتفال في جبال الأطلس غير بعيد عن دَمْناتْ.. تركوها كعربون محبة وشكر لهؤلاء الأمازيغ الذين اتسع صدرهم لتقاسم الأرض والمصير معهم لقرون ممدودة، قبل وبعد اعتناقهم للإسلام. هؤلاء الأمازيغ المتواضعون بطبعهم، المتسامحون بأصلهم.. نعم، يبدون نوعا من الإحداد ورد الفعل حين يحسون بالإهانة؛ لكنهم، في عنفوان قوتهم ورخيص ضعفهم، تجدهم منفتحين على الآخر، مسلمين له بالسلطة والزعامة والجاه.. ما قَلَّ يكفيهم!
“تَاعِنيتْ” (תענית): الاحتفال أو أرض الاحتفال. هذه الكلمة ارتبطت بـ”عيد النصيب”، وهو الاسم العربي لعيد البوريم (قرعة أو نصيب في البابلية القديمة)، ويُدعى أيضاً “يوم مسروخت” إشارة إلى “الباروكة” التي كان يرتديها اليهودي في هذا العيد في القرن الأول قبل الميـلاد.. وعند العرب سمي “عيد الشجرة” أو “عيد المساخر”. ويُحتفَل بعيد البوريم في الرابع عشر من مارس (التاريخ الذي كانت الآلهة البابلية تُقرِّر فيه مصير اليهود)، وهو أيضا اليوم الذي أنقذت فيه إستير يهود فارس من المؤامرة التي دبرها هامان لذبحهم. ولذا، ففي اليوم الذي يسبق العيد يصوم بعض اليهود ما يُسمَّى “صوم إستير”، إحياءً لذكرى الصوم الذي صامته إستير وكل اليهود قبل ذهابها إلى الملك الفارسي تستعطفه لإلغاء قرارات هامان (حسب الرواية التوراتية). وكان قد تقرَّر بالقرعة (أي بالنصيب) أن يكون يوم الذبح في الثالث عشر من مارس، ومن هنا التسمية. ويحتفل اليهود بهذا العيد بأن يقرأ أحدهم سفر إستير من إحدى اللفائف الخمس (أي من مخطوطة خاصة مكتوبة بخط اليد) ليلة العيد. ويصاحب هذا العيد الكثير من الصخب، إذ كان اليهود عند ذكر اسم هامان، أثناء قراءة سفر إستير، يُحدثون جلبة أو يدقون بالعصى التي في أيديهم وكأنهم يضربون هامان وينكلون به. ويقدم اليهود في هذا العيد الهدايا إلى الأصدقاء، كما أن الأسر تتبادل الطعام. ومن العادات الأخرى تناول فطيرة خاصة يدعونها “أُذن هامان”، كما كان أعضاء الجماعات يحتفلون بالعيد بارتداء الأقنعة. كل هذا كان يقوم به اليهود في أرض الاحتفال.. في منطقة “تَاعِنيتْ” الأمازيغية، على نهر تاساوت الفاصل بين الأطلس المتوسط والأطلس الكبير..