مساءلات سياسية للدولة المغربية الحديثة -29-
المغالبة والتغالب
بقلم : الشيخ سيدي عبد الغني العمري
ذكرنا في فصول سابقة أن الصراع في العالم محصور بين حزبين لا ثالث لهما، هما حزب الله وحزب الشيطان. وذكرنا أن التمايز بين الحزبين، في الدنيا لا يكون عاما؛ لأن الدنيا دار ابتلاء، واختلاط الأحكام فيها من صميم الابتلاء. ومن اختلاط الأحكام أيضا، ما يجعل الأشخاص يظنون أنهم يأتون خيرا، فإذا بهم على شر؛ أو العكس. وفي هذا المعنى جاء قول الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]. ولا يكون تمايز الحزبين التام، إلا في الآخرة؛ بسبب انكشاف علم الله في الناس للناس. وهناك يكون الأمر كما قال الله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7]. وهذا هو ما سميناه التمايز التام؛ الذي لا يعني أن الله لا يطلع بعض خواص عباده، على ما يجعلهم يميزون الفريقين في الدنيا؛ وإلا لاستوى خواص الأمة بعوامها؛ وهذا لا يكون. وقد قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
وبما أن الأمر مغالبة بين الحزبين، فلا شك أن مردّه سيكون إلى القوة. وهذا واضح، من حيث النظر العقلي، لكل ذي عقل؛ لكنه من الجهة العملية، من أصعب الأمور. ذلك لأن مدلول القوة، قد يتّحد عند الحزبين أحيانا، وقد يختلف أخرى. نعني من هذا، أن المعايير ليست متحدة دائما، ولا هي مضبوطة دائما. ومما يتفق عليه الفريقان، بهذا الصدد، القوة المادية، التي تتجلى في القوة العددية؛ وفي قوة السلاح؛ وفي قوة المال، الذي يتوصل به كل فريق إلى مبتغياته الإجرائية، ما دام المال ليس مطلوبا لذاته.
وإذا عدنا إلى القرآن، فإننا سنجد الله يقوّم منا الفهم لمعنى القوة؛ حتى لا نتقيد بما هو مشترك عقلي بيننا وبين حزب الشيطان. فيقول سبحانه فيما يتعلق بالعدد: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ • الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 65، 66]. وإذا نحن قارنّا نسبة المؤمنين إلى الكافرين، فإننا سنجدها في الآية الأولى العُشر؛ وسنجدها في الآية الثانية النصف. وهذا يعني أن المؤمنين إن كانوا أقوياء، فيكفيهم أن يكونوا عشر عدد الكافرين لتتحقق لهم الغلبة؛ ولكن لما علم الله قصورهم عن هذه المرتبة، جعل الحد لديهم بلوغ نصف عدد الأعداء. كل هذا، مخالف للقاعدة المشتركة العقلية التي تنحو ناحية غلبة العدد الأكبر، في العادة. وهذا يحيلنا إلى معيار جديد، هو ما ألغى اعتبار العدد جزئيا؛ وليس إلا قوة الإيمان. نقول قوة الإيمان لا الإيمان، لأنها هي المتغير بين النسبتين المذكورتين في الآيتين، مع كون الإيمان مشتركا بينهما.
والإيمان أمر مشترك أيضا، بين المؤمنين والكافرين، من وجهين متقابلين، كما ذكرنا ذلك في غير هذا الكتاب. وهو ما ذكره الله في قوله سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء: 76]؛ ما دام المؤمنون مؤمنين بالله، والكافرون مؤمنين بالطاغوت. وقال سبحانه في موضع آخر: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256]. ولما كان الأمر هكذا، كانت الغلبة لقوة الإيمان، لا لصنفه. وهذا قد جهله المؤمنون، وما زالوا يجهلونه -جلهم- إلى الآن. نعني أن الله، لما قال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، فإنه أطلق الإيمان، ولم يقيّده بمناطه. ولهذا السبب كان النصر حليفا للكافرين في أحيان كثيرة، عند غلبة إيمانهم لإيمان المؤمنين. ولولا هذا، لكان النصر حليفا للمؤمنين دائما. وهذا خلاف الواقع، من غير شك. والسبب في هذا الاشتراك، الذي هو من وراء الاختلاف العقدي، هو أن كل شيء يرجع إلى الله، سواء أكان حقا، أم باطلا في ظاهره. نعني أن المدد الإيماني لفريق المؤمنين ولفريق الكافرين هو من الله الواحد، لا من إلهين؛ تعالى الله. وقد ذكر الله هذا، في قوله سبحانه: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]؛ هؤلاء وهؤلاء: حزب الله، وحزب الشيطان. وهذا الاشتراك المددي، غير معتبر عند عوام المؤمنين، لجهلهم بما ذكرنا. وهو من غير شك من نقص توحيدهم العام.
وأما قول الله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]، فإن الموصوف بالضعف فيه هو الكيد، لا المدد الإلهي. والكيد من الشيطان، هو احتياله وخداعه؛ هذا هو الضعيف منه. والمعنى هو: أن كيد الشيطان، لا ينطلي على المؤمن، لأنه ينظر بنور الله، فينكشف له انكشافا، لا يتمكن معه اللعين من نيل وطره منه، إلا إن حصل الحجاب؛ فهذا هو ضعف الكيد. وهذا بعينه هو ما ذكره الله في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
من كل ما سبق، يتضح أن نصر المؤمنين، متعلق بمدى قوة إيمانهم من جهة، وبمدى قوة نورهم من جهة أخرى. وهذان أمران مغفلان للمسلمين، لعلمائهم قبل عوامهم. والسبب هو ظنهم أن الأمر يُجزئ فيه الانتساب إلى الحق فقط. وهذا الظن، جعلهم يتوهمون أن الكافرين لا إله لهم يمدهم؛ بينما الله هو إله الفريقين وربُّهما. ينصر من يشاء منهما، ويرتب لهذا النصر أسبابا منها الظاهر، ومنها الغيبي. فإن أراد أحد الاعتراض بقول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11]، فإننا نذكّره بأن الولاية هنا النصرة، لا الألوهية والربوبية. والنصرة ليست مطلقة، كما يدل على ذلك الواقع، فبقي أن المقصود من هذه الآية، دلالة المؤمنين على سبب نصرهم، الذي هو الرجوع إلى الله، من أجل تحقيق الاستمداد فحسب. وفي الآية وجه آخر، ليس هذا محله.
وإن نحن عدنا إلى واقعنا اليوم، في بلادنا خاصة، وفي بلاد الإسلام عامة، فإننا سنجد المؤمنين الذين هم أفراد حزب الله، مفرّطين فيما دلهم الله عليه من أسباب تحقيق النصر، من عدة أوجه، منها:
1. طغيان المعايير العقلية وحدها على عقول الناس، وهذا يجعلهم واقعين تحت تحكم المشترك، الذي لا يمتاز فيه كافر عن مؤمن. وهو من جهته، يؤدي إلى ضعف الإيمان، إلى درجة تكاد تقارب الصفر، بسبب توهم انحصار الأمر فيما هو مُدرك في هذه الحال وحدها؛ مع بقاء ما دل الله عليه عباده، خارج دائرة الإدراك. والعقل يُعامل ما يكون خارج دائرة إدراكه، معاملة المعدوم. ومن هنا كانت كبريات زلاته!..
2. جهل المؤمنين بحقيقة الإيمان، وتوهمهم أنه معنى واحد، يشترك فيه كل من صدّق بالله. وهذا غير صحيح، لأن الإيمان مراتب، بين إحداها والتي تليها، ما بين السماء والأرض أحيانا. والجهل بهذه الحقيقة، يجعل الناس قاعدين عن طلب تقوية إيمانهم، بالطرائق المشروعة. وهذا الجهل الذي نتكلم عنه هنا، أول من يقع فيه علماء الشريعة، الذين يشتغلون بالكلام طيلة أعمارهم، ويتركون العمل بما أنزل الله، في هذا الأمر على التخصيص.
3. الجهل بما فوق الإيمان؛ وإن كان معدودا منه؛ ولسنا نعني إلا اليقين. واليقين، هو الدرجة التي إن بلغها الإيمان، لا يعود قابلا معها للزيادة ولا للنقصان. ومما يُنسب إلى علي عليه السلام في هذا المعنى، قوله: "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا"؛ أي لو اطلعت على الآخرة، بموت وبغيره، ما ازددت يقينا على ما أنا عليه. وهذا هو ما يُسمى عند العلماء، كمال الإيمان. والخلاصة، أن زيادة الإيمان ونقصانه اللذين دل عليهما الوحي، لا يكونان إلا قبل بلوغه درجة اليقين. واليقين قد يكون عن إيمان محض، وقد يكون عن مشاهدة؛ وحال المشاهدة أقوى من غير شك.
4. الجهل بمرتبة العلماء بالله (الذين يعلمون الله). وهذا الجهل، قطع المؤمنين عن الائتمام بالربانيين، الذين أسبقهم الله في الذكر على علماء الشريعة، عند قوله سبحانه: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} [المائدة: 63]. ولما اكتفى المؤمنون بإمامة الأحبار، فإنهم حُرموا من زيادة المدد الإلهي، الذي يصير إيمانهم بموجبه قويا، مستحقا للنصر من جهة؛ ووقعوا تحت تلبيس إبليس، لكون الأحبار ليس لهم النور اللازم لكشف كيده من جهة ثانية. بل إن الأحبار أنفسهم، يتلاعب بهم الشيطان كما يشاء، إن لم يعصمهم الله من عنده تفضلا. وهذا الذي نذكره هنا، جعل شطرا من حزب الله، في الحقيقة من حزب الشيطان بالإلحاق، وإن لم يكن منه بالأصالة. وهو سبب هذه الهزائم المتلاحقة، التي لا تكاد الأمة تخرج من إحداها، إلا للدخول في أخرى.
وإذا نحن رجعنا إلى السنة، فإننا سنجد من أبرز ما يوصّف حال أمتنا اليوم، قولَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»[1]. ولنلاحظ بعض معاني الحديث:
1. إن وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم حال الأمة، بتداعي الأكلة إلى قصعتها، يدل على تمكن الأعداء منها، إلى درجة لا مجال للتمنع معها؛ ويدل على أن الدافع من الأعداء، هو الطمع فيها. وهذا مشهود بالعين في زماننا.
2. سؤال الصحابي: "وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟" وجواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ»، يُلغي معيار الكثرة العددية من الاعتبار. فالعدد الكبير اليوم للمسلمين، لا يغير من واقع الحال شيئا. فلم يبق إلا ما ذكرناه من أسباب القوة فيما سبق. ووقوع الهزيمة، مع كثرة العدد، يدل على أن المؤمنين، قد نزل إيمانهم عن الحد الأدنى للضعف، المذكور في قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66]. نعني أننا اليوم في ضعف كبير، لا في ضعف فحسب.
3. وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنا بأننا: «غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ»، يدل على عدم فلاحنا في شيء، من أسباب القوة الظاهرة والباطنة؛ وهو قريب من جعل وجودنا كعدمنا حكما. وهذا أقصى ما يُمكن أن تبلغه أمة من الضعف. وفيه أيضا دلالة على أن أمور المسلمين تكون بأيدي أعدائهم؛ فهم لا إرادة لهم، كما لا إرادة للغثاء مع السيل، عندما يأخذه أنى شاء. ومن ينظر إلى تماوج المسلمين مع مختلف التوجهات الفكرية والأيديولوجية العالمية، فإنه يجد ذلك ماثلا.
4. ذَكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم نتيجتين لحال الأمة: واحدة فيها، والثانية في الأعداء. أما التي في الأعداء، فهي نزع المهابة من صدورهم؛ وأما التي فيها، فهي قذف الوهن في القلوب. وهاتان معا، تعملان في الاتجاه ذاته، الذي هو غلبة الأعداء للأمة؛ مما يدل على أنه قدر محتوم، لا يُرفع إلا بأجله.
5. ولما فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوهن بـ: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»، فإنه قد دل على مكمن الداء. ولا شك أن حب الدنيا وكراهية الموت، لا يوجدان إلا مع ضعف الإيمان الشديد؛ لأنه، يفتح أبواب تلبيس الشيطان، الذي هو في حقيقته ليس إلا التحكم في الوهم. والوهم وحده، هو ما يجعل العبد يؤْثر دار الفناء على دار البقاء. وإذا قارنا فعل الإيمان في السابقين، مع الحال اليوم، فإن الفرق سيظهر جليا، وبأدنى تمييز. والخروج من حال الوهن، لا يكون بالتنظير ولا بالكلام (الإقناع)؛ ولكنه يكون نتيجة تقوية الإيمان، عن طريق عملية التزكية، التي صارت عند الغافلين كأنها ليست من الدين. والتزكية لها أهلها كما هو معلوم، ولا يستطيع ادعاءها كل من يريد؛ لكونها تقوم على الإمداد الإلهي، الذي لا يؤتيه إلا الله وحده.
وبما أن أوطاننا اليوم، ليست خالصة لأحد الحزبين، رغم نسبتها إلى الإسلام، ورغم غلبة نسبة الحق لديها، فإنه يصعب العمل فيها، لما هو يصب في مصلحتها حقيقة؛ بسبب تداخل الأحكام الذي ذكرناه في فصول سابقة، وبسبب الوقوع تحت تحكم أمم مخالفة، هي بمثابة السيل الذي يجرف غثاءنا، بالمعنى السياسي. ومن أراد أن يعمل بما يعطيه ظاهر الأمور، كما فعلت جماعات تقصُر عن إدراك ما ذكرنا، فإنه سيقع في الاصطراع الداخلي، الذي لن يزيدنا إلا ضعفا على ضعفنا. وهذا لا يقبل به، إلا من كان علينا، لا معنا. فلا يبقى بعد هذا، إلا أن يكون الجهد مصروفا إلى تقوية الإيمان، لدى من يريد ذلك ويرغب فيه؛ من أجل إبراز معالم حزب الله، بعد ذلك، تسهيلا لدعوة سائر المؤمنين، إلى الالتحاق بمحوره حيث كان.
إن ما ينتظرنا في المغرب، هو ما ينتظر المسلمين جميعا، في كل الأقطار. غير أن الدلالة على ما ذكرنا، ستجعلنا -إن شاء الله- سباقين إلى ما تخلف عنه كثيرون من غيرنا. ونحن لا نريد أن نُقارَن إلى تجارب الإسلاميين السابقة، لكونها لم تخل من شائبة فكر، صارت عند استفحالها، مانعا عن المقصد الأول، الذي هو تحقيق النصر بعد الخروج من حال الغثائية. إن ما ندعو إليه هنا، هو التزام تام بالمنهاج النبوي، من غير زيادة ولا نقصان؛ وهو الوصول بالتزكية، إلى أن تصير مشروعا وطنيا، يكون أرضية لكل إصلاح بعده. هذا وحده، هو ما سيدل على أننا قد بدأنا نعلم ما علينا عمله، وأننا قد أصبنا في البدء من حيث هي البداية الحق.
نحن نعلم أن كثيرين من إسلاميينا، ما زالوا تحت تأثير الأيديولوجيا، يرومون ما لا يُرام، ويريدون نيل ما لا يُطال. ولكننا نترقب منهم أن يتنبهوا إلى ما يُغفلونه من شروط التعافي من داء الوهن؛ لعلنا نلتقي جميعا، على ما ينفعنا عند الله، من دون اعتبار لشيء غير مرضاته سبحانه.
وأما الذين يدعون إلى إلغاء الصراع من الأصل، ويزعمون أن انتفاءه من المجتمعات، سيكون دليلا على بلوغها الكمال، بالمعنى الديمقراطي؛ فإنهم سيكونون أحد فريقين: إما جهلاء، لا يعلمون ما يقولون، ويتوهمون أن كل ما يمكن تصوره عقلا، هو قابل للخروج إلى الواقع؛ وهؤلاء هم عوام حزب الله، وعوام حزب الشيطان؛ وإما كائدون، ينتسبون إلى حزب الشيطان، ويريدون لأمة الإسلام أن لا تُفيق من غفلتها، حتى يبقوا على ما هم عليه من التحكم في شؤونها. نقول هذا، لأن الصراع طبيعي بين الحزبين اللذين جعلهما الله، عامرين للأرض، وجعلهما على التقابل. ومن يقول بغير هذا، فإنه يكون كمن يطمع في جعل النهار سرمديا، لا يعقبه ليل؛ أو جعل الليل سرمديا، لا يعقبه نهار. وهذا، لم يقل به أحد، بحسب ما بلغنا.
(يُتبع...)
[1] . أخرجه أبو داود عن ثوبان رضي الله عنه.
(كُتب هذا المقال بعد مضي أكثر من شهرين من السنة الثالثة من الاعتصام المفتوح للشيخ وأسرته؛ بسبب اضطهاد الحكومة وأجهزتها الذي ما زال مستمرا إلى الآن).