في ظل تنزيل ورش الجهوية
ماذا بقي من الدولة؟
بقلم: ذ.صديق عزيز
لم يعد ينظر بعين الرضا للنموذج التنموي في بعده الشمولي الوطني، نظرا لتكريسه لثنائية لا متكافئة بين المركز المهيمن المتحكم، و الهامش التابع المتأخر. فأصبح مفهوم التنمية المحلية الان مرجعية سياسية و اقتصادية من خلال سياسات اللامركزية وعدم التركيز، و التي قادت المغرب بعد نضج مسارهنحو تنزيل ورش الجهوية.
وأمام تزايد الطلب الداخلي ببلادناعلى إعطاء تعريف جديد لوظائف الدولة من أجل معالجة التوازنات الترابية، تحول المجال إلى فاعل اقتصادييتأسس علىتحريك للطاقاتالداخلية للمجالات الترابية ضمن دينامية تشاركية، بالشكل الذي يحقق التنمية في جميع أبعادها، وهذا ما كان يصنف للأسف ضمن المفكر فيه لدى الدولة بجميع مؤسساتها.
ومهما تكن أولوية الجهة كمفهوم دستوري حديث التداول نسبيا، فإن اقتناع السلطات العمومية بالتعامل مع التراب الوطني بنهج سياسات ترابية تنموية وفق مقاربة تشاركية بغية الوصول للعدالة المجالية، بدأت إرهاصات التفكير فيه منذ التسعينيات. حيث احتدم النقاش العمومي بضرورة العودة إلى المحلي، بشكل أعطى لمفهوم الدولة طابعا متعدد الأبعاد، و عكس أهمية تدخلها في مجال متسم بالأزمات الناتجة عن العجز المتزايد و المضطرد لوسائل تدخل الدولة التقليدية.
فوراء وجود الدولة، هناك دائما هاجس تنظيم الحياة داخل الجماعة، و السعي نحو تحقيق المصلحة العامة في مناخ يدفع دائمانحو تضمين البعد التشاركيفي السياسات العمومية. و بالشكل الذي يسمح للساكنة المحلية بتقاسم هاجس تحديد أولويات و خيارات التنمية. و في مفترق الطرق بين المركزية و اللامركزية، تظهر الدولة التي ما فتئت تتطور و تعزز تواجدها في الحياة اليومية للأفراد و الجماعات، أمام رهانات جديدة من قبيل عولمة التبادلات التجارية، و تنامي قوة و تأثير المنظمات الدولية...وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن جدوى تطبيق الجهوية، هل هي محاولة لتجاوز النظرة التقليدية التي تعتبر الحكامة المحلية كابنة بالتبني للحكامة المركزية؟ أم تأكيد لشرعية الدولة في ظل إكراهات الفعالية و النجاعة في التدخل؟
أولا: الجهوية بين الخيار التنموي و التسويق الترابي
عندما يتم استحضار البعد التنموي في بلورة السياسات الترابية، نكون أمام تجسيد حقيقي لإجماع كافة المتدخلين حول النهوض بالجماعات الترابية كآلية أساسية لتفعيل مقومات التنمية، و القائمة على خلق الثروة و تحقيق الديمقراطية المحلية.
و لقد أكد دستور 2011 على أن التنظيم الترابي بالمغرب هو تنظيم لامركزي مؤسس على الجهوية المتقدمة، و يعتبر ذلك بمثابة توافق على الاعتراف للجهة بالدور الفعال في التنمية الاقتصادية و الاجتماعية المندمجة. خاصة و أن هذه الأخيرة أصبحت تتبوأ تحت إشراف رئيسها مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الترابية حسب الفصل 143 من الدستور.
وبالتالي فالبحث عن مجال ترابي متكامل، هو بمثابة البحث عن استراتيجية كفيلة بإدماج كافة الشروط التنموية من أجل تحقيق التنافسية الجهوية و الجاذبية للاستثمار. و من أجل ذلك بادر المغرب إلى تنزيل ورش الجهوية المتقدمة كتنظيم لامركزي متقدم قائم على توسيع صلاحيات الجهة و إعادة تركيب البنيات الجهوية، و تخويل المنتخبين الاختصاصات الكفيلة بتحقيق أكبر قيمة مضافة اقتصادية و اجتماعية و ثقافية و مجالية انطلاقا من التراب المحلي.
لكن العلاقة الوطيدة بين إعداد التراب الوطني و اللامركزية الترابية، تجعل التأسيس لسياسات ترابية تنموية تروم التعامل الايجابي و الناجع مع التراب الوطني تشوبها اختلالات كثيرة بسبب ظهور جهات المغرب بوضعيات اقتصادية و اجتماعية متناقضة. فنجد جهات غنية، و جهات أخرى تعيقها البطالة ،الفقر و الهشاشة. فقدنص دستور 2011 في ديباجته على ضرورة إرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن، الحرية، الكرامة، المساواة، تكافؤ الفرص، العدالة الاجتماعية و مقومات العيش الكريم في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة.
و الثابت أن الأقاليم الجنوبية تعيش على وقع اختلالات ترابية و تنموية، أشار إليها تقرير المجلس الاقتصادي و الاجتماعي و البيئي المنشور سنة 2013 حول النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية. حيث أكد أن هذه الأقاليم التي تمثل %59 من التراب الوطني، و التي يقيم فيها فقط % 3,2 من ساكنة المملكة، تعاني من ضعف القيمة المضافة للنسيج الاقتصادي على اعتبار أن الدولة ما تزال المستثمر و المشغل الأول في الصحراء. وهذا ماجعل المغرب يعمل جاهدا لتحقيق أهداف التسويق الترابي المتمثلة في توسيع شبكة الوحدات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية انطلاقا من تقييم التراب و إمكاناته في الأسواق التنافسية.
و مع الشروع في تطبيق الجهوية الموسعة كنواة لتحقيق اللامركزية السياسية، ستسعى السلطات العمومية إلى تعزيز مشاركة الفاعلين المحليين ذوي الصفة التمثيلية إلى جانب الساكنة المحلية في كل مراحل إعداد و تفعيل البرامج التنموية بالجهة في أفق إرساء توازنات اجتماعية أكثر عدالة في توزيع ثمار التنمية. مما يوحي بالتسويق الأمثل للتراب المحلي المحققلأكبر جاذبية اقتصادية، مع ضرورة استحضار مرتكزات التنظيم الجهوي و الترابي، و التي نص عليها الدستور المغربي في فصله 136 و المتمثلة فيمبادئ التدبير الحر، التعاون، و التضامن، مع التأمين الأمثل لمشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم و الرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة و المستدامة.
ثانيا : الجهوية و إشكالية وحدة و بقاء الدولة
إن التساؤل حول بقاء الدولة ووحدتها من منظور الحكامة الترابية، يستمد راهنيته ارتباطا بالوظائف الجديدة للدولة التي أصبحت تتجاوز هاجس الدفاع و الأمن ،و تنظيم العلاقات الاقتصادية، و كذاتأسيس أنظمة الحماية الاجتماعية، إلى التموقع خارجيا في ظل تحديات العولمة. حيث تبددت الحواجز الجمركية، و تقلصت حرية الدولة في مراقبة حركية السلع و الرساميل و الأشخاص، مما سمح بظهور كيانات أقوى من الدول تتخذ عادة شكل شركات متعددة الجنسيات أو شكل منظمات دولية أو اتحادات اقليمية.
فالدولة تتجه عادة إلى إعادة تحديد الأدوار على الصعيد الوطني، من خلال علاقات جديدة مع التراب. و هذا ما يستلزم إدماجا سياسيا، اقتصاديا اجتماعيا و ثقافيا للتراب و كذا للفاعل المحلي ولوسائل تدخل الدولة. و تمثل الجهوية تعبيرا عن تطبيق السياسات العمومية الترابية، و التأكد من ملاءمتها للمجال. و بالشكل الذي يساهم في تعزيز ميكانيزمات التضامن بين الجهات، لاسيما أمام تحديات التفاوتات الترابية و اختلاف الإمكانيات و الثروات و المؤهلات. ولأجل توزيع الثروة الوطنية والحد من الفوارق و اللاتوازنات الترابية بين الجهات، أشار دستور 2011 إلى إحداث صندوق للتأهيل الجماعي بهدف سد العجز في مجالات التنمية البشرية و البنية التحتية و التجهيزات الأساسية، ثم صندوق التضامن بين الجهات. و في إطار التكريس الدستوري لمبدأ التدبير الحر كآلية لضمان استقلالية مراكز القرار على المستوى المحلي، و كذا مبدأ التفريع الذي يستهدف الحد من تنازع الاختصاصات بين الدولة المركزية و الجماعات الترابية.
لكن ما تجب الإشارة إليه أنه في إطار تسويق و تنزيل ورش الجهوية سيتم السعي نحو تقوية جودة و سهولة الولوج للمرافق العمومية المحلية على قدم المساواة، ثم التوظيف الأمثل و العادل للموارد العمومية( بشرية كانت أو مالية) استنادا على اختلاف مقومات الجهات سوسيوثقافيا و اقتصاديا... باعتبارالتراب المحلي جزءا من المجال بنظام علاقات مفتوح، و الذي أصبح يأخذ أبعادا اقتصادية أكثر من ذي قبل في إطار التنافس حول تحقيق أكبر جاذبية اقتصادية.
و يبقى التساؤل مشروعا عن حدود دعم الجهوية بشكليها الإداري و السياسي للاستقرار السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي للدولة، أو لسيادة و وحدة الدولة بشكل أعم. حيث لا تزال تحتفظ هذه الأخيرة بدور المستثمر و المشغل و المقاول و المدبر و الوسيط و الحكم في النزاعات و الصراعات بين الفاعلين و الفرقاء. وهذا ما تنبه له الملك محمد السادس في خطابه الذي ألقاه يوم 20 يوليوز 2015 بمناسبة الذكرى الثانية والستين لثورة الملك والشعب، حيث أكد على أنه " يتعلق الأمر بتطبيق الجهوية المتقدمة، التي نريدها عماد مغرب الوحدة الوطنية والترابية، والتضامن بين الفئات، والتكامل والتوازن بين الجهات ......، خاصة في ظل ما يخوله الدستور والقانون من اختصاصات واسعة لمجالس الجهات والجماعات المحلية". كما جاء في خطاب الملك محمد السادس يوم 17 يونيو بمناسبة الدستور الجديد :"إن منظورنا الشامل للديمقراطية الحقة، ومقومات الحكامة الجيدة، لا ينحصر في إعادة توزيع السلطات المركزية، بل يقوم على توزيع السلطات والموارد، بين المركز والجهات؛ وذلك ضمن جهوية متقدمة، نعتبرها عماد الإصلاح العميق لهياكل الدولة وتحديثها"
فالاتحاد الأوربي مثلا استطاع احتضان عدة دول عريقة في مجال الديمقراطية، لكن ذلك لا يعني أن هناك رضى تاما من طرف سكان هذه الدول عن أكثر من 38 ألف وثيقة بين نصوص قانونية، اتفاقيات، دوريات، قرارات، أحكام.. مؤسسة للاتحاد الأوربي أو بشكل أعم للسياسات المتبعة من طرف هذا الأخير. نفس الشيء قد ينطبق على المغرب، حيث قد يطالب سكان الجهات الأخرى بنفس الامتيازات و الصلاحيات و الاختصاصات الممنوحة في إطار الجهوية الموسعة.
و جدير بالذكر أن الاستقلال المالي المزمع تمتيع الجهات به، يظل استقلال هشا نظرا لتكريسه لمنطق التبعية حيث يتركز في مجمله على إعانات الدولة.كما أن الوصاية ما تزال ترخي بظلالها، و تجعلنا نتساءل حول هوية الشخص الذي يملك سلطة اتخاذ القرار النهائي خاصة في المجال المالي، هل هو الوالي أم رئيس الجهة؟. فلا بد من التفكير في سبل الدفع بالمفهوم الحديث للوصاية الذي يتجاوز منطق الرقابة سواء القبلية أو البعدية، إلى المواكبة و التجسيد الأمثل لمبدأ التدبير الحر. و كذا ضمان احترام توزيع الاختصاصات بجعل أعمال الجهات و تصرفاتها تحت رقابة المحكمة الدستورية، لاسيما و أن الملك محمد السادس في خطابه ليوم 17 يونيو 2011 بمناسبة الدستور الجديد أكد على اختصاص هذه المحكمة للبث في المنازعات بين الدولة والجهات أأ.
فكيف نستطيع إذن تطبيق الجهوية باعتبارها لامركزية متقدمة في دولة موحدة؟ إن التأسيس لدولة موحدة تطبق الجهوية بنوعيها السياسية و الإدارية، لا ينبغي أن يؤثر على وحدة الدولة و استقرارها. فالبرجوع للتجربة البرتغالية نجد أنها نصت في دستورها في المادة 6 على أن الدولة " موحدة و تحترم في تنظيمها استقلالية الجهات، ومبادئ التفريع و التدبير الحر للجماعات الترابية و كذا اللامركزية الديمقراطية للإدارة العمومية.." فالدولة الموحدة في بنيتها و ترابها لا ينبغي أن تتأثر بتنزيل الجهوية، التي أصبحت واقعا راهنا أملته شرعية تمثيل المصالح الترابية، بالشكل الذي يجعلها لا تختزل في التقطيع الترابي الذي تظهر فيه الدولة المركزية بمظهر الوصية و المخططة و المنفذة... لكن لا بد من التركيز على بناء استراتيجيات العمل المستقلة و القادرة على تأهيل التراب المحلي و تنميته، عن طريق الاعتماد على القدرات الذاتية و التدبير الجيد للشأن المحلي. و هذا ما يمثل البعد الديمقراطي للجهوية، الذي يلقي الضوء على هندسة السلطة وبالأخص العلاقة بين السلطة و المؤسسات.