الغش القادم من ...!
عبد الحكيم برنوص
مع حلول موسم الامتحانات ، يستعد الناس كل سنة و يتعبؤون، لمواجهة الخطر القادم، وتُعلن حالة تشبه النفير العام ضد هذا العدو الموسمي ( تشبه هذه الحالة في بعدها الساخر، موسم قدوم الجراد)، فينقسم ناس التعليم قسمين : غشاشون محتملون ، و مراقبون مجندون ، و إلا بمَ نفسر هذا التجييش العارم للأطر، و هذه الترسانة الكبيرة من أجهزة التشويش و الرصد .فتضحي المؤسسات التعليمية مثل نقطة تفتيش أمام منشأة عسكرية .
الغش قيمة اجتماعية متداولة و مطلوبة ( زعموا أن بعض التلاميذ يزرعون أدوات استماع في آذانهم ، بمباركة من ذويهم طبعا و بتنفيذ من أصحاب الاختصاص) . و لا يقتصر الغش على النظام التعليمي فقط، بل يسري على مرافق المجتمع بأكمله ، من دعامات الأبنية المغشوشة ، التي تنهار فوق رؤوس ساكنيها، إلى متسابقي الدراجات الهوائية ، الذين يحقنون دماءهم بكريات الغش التي لا لون لها.
وللقضاء على هؤلاء الغشاشين المحتملين، فإن أمر القبض عليهم وترصدهم ، يعهد به إلى جهاز التقويم و المراقبة ، الذي يفترض فيه أن يعطي لكل ذي حق حقه ، حتى يكون الاستحقاق ، المعيار الوحيد الذي على أساسه يوزع الناس في المجتمع ، فيكون الفرد المناسب في مكانه الذي يليق به و يستحقه، فماذا يحدث ، إذا كان جهاز التقويم نفسه معطوبا، أو قل هو نفسه مغشوشا! النتيجة المباشرة طائفة كبيرة من الغشاشين ، في مجتمع يراوح مكانه.
(يستحق موضوع التقويم والإشهاد مساحة خاصة، تناقش كيف يُقوّم التلميذ و يحدد مصيره الوجودي، في مواجهة تمرين واحد! )
الإنسان في سعيه الدائم نحو التميز و اعتلاء المنصات ، يحتاج طاقة إضافية تميزه عن بقية المنافسين ، تزيحهم من طريقه، و تلقي بهم في مضمار السباق، فإن لم تكن هذه الطاقة المنشودة عبقرية متفردة أو مجهودا ذاتيا خرافيا ، فإن الغش و التحايل يفيان بالغرض، من غير سهر أو كبَد أو معاناة أو مشقة.
الغش طريق مختصرة و بأقل التكاليف ومن غير مجهود مضن ، لذلك يمارس الغش إغراء شديدا على النفوس الضعيفة ( و ما أكثرها ! ) النفوس التي ما إن تواجه حاجزا أو مصفاة ، فإنها تبادر إلى التفكير في إمكانية وجود باب خلفي ، أو سرداب لا يعرفه الناس .
العتب ،كل العتب ،على منظومتنا الأخلاقية التي باتت في طريق التحلل أو الانحلال، والمؤسسة التعليمية واحدة من مؤسسات المجتمع الكثيرة ،إلى جانب الأسرة ، التي يعول عليهما في غرس بذور الثقة و النزاهة في نفوس مرتاديهما.
و المقال قيد الوضع، تعلن الوزارة المعنية عن إعادة الكرّة ، بالنسبة للذين نزلت ضربة الغش في مرماهم، و لعمري إنها مصيبة تكاد تودي بسمعتنا التعليمية و الأخلاقية ، فكم يلزمنا من السنوات لمحو عار شبهة الغش، وكم يلزمنا من الوقت لإقناع شركاء المعرفة في العالم لنسيان هذه المعرة.
الغش صنع بشري ، يصنعه نوع معين من الناس، ترعرع في نوع معين من المجتمعات، ولا تكفي وسائل الحماية الأشد عتيا للقبض على الغشاشين ، فأشد البرامج والقلاع تحصنا إنما تؤتى من هفوتها التي غالبا ما ينساها الناس، العنصر البشري حامل الأمانة على الأرض، الذي يبقى عصيا على القبض و الترصد ، ومن غير تهذيب للروح و إعلاء من قيمة الفرد من حيث هو فرد، سيظل الناس يغشون مثلما يأكلون وينامون.