لم تصدق عيناي إلى حدود الساعة مشهد تلك الجثت وسط شاحنة لنقل الأزبال .. لم أستوعب بعد ذلك المنظر .. لم يستطع عقلي بعد أن يصدق بأن الأمر يتعلق بمغاربة ماتوا وسط الإهمال في ذلك المغرب العميق .. لا، هو ليس بالمغرب العميق .. بل هو المغرب السحيق.
نعم إنه المغرب السحيق حيث يعيش الناس بعيداً عن كل أشكال الحضارة، في بيوت من طين لا تتوفر فيها أدنى شروط الحياة. مغاربة المغرب السحيق يعيشون دون كهرباء ولا ماء شروب، وعندما تسقط ملمترات من الأمطار تعزلهم نهائياً عن العالم، بل وربما يموتون غرقاً وسط مياهٍ لا يتجاوز طولها 60 سنتمتراً.
في المغرب السحيق يمشي الأطفال كيلومترات للوصول إلى المدرسة. هي في الحقيقة ليست مدرسة، بل حجرة وسط الخلاء يسكنها معلم(ة) منفي(ة) في هذا الجزء من الأرض.
في المغرب السحيق لا وجود للطبيب و لا للدواء، وحتى الغذاء ينتظرون السوق الأسبوعي لشراء ما استطاعوا إليه سبيلا. في المغرب السحيق، القائد هو الحاكم ولا كلام يعلو على كلامه، ولا قانون غير ما يأمر به، وحتى لو أرادوا مقابلته فإنهم يتركون أحذيتهم على باب مكتبه.
ومع ذلك سكان المغرب السحيق مسالمون، إذا سألتهم عن أحوالهم يقولون الحمد لله. وإذا ماتوا في كارثة، ينقلون جثتهم على شاحنة للأزبال.
ما حدث لسكان المغرب السحيق في اليومين الماضيين لا يشكل كارثةً بالنسبة لهم، لأنهم ببساطة يعيشون حياةً كارثيةً كل يوم. هناك، بعيداً حيث لا تتوفر أدنى شروط الحياة للحيوان، فما بالك بالإنسان.
اللامبالاة التي تعامل بها المسؤولون مع ضحايا فيضانات كلميم وورزازات ليست وليدة اليوم، فنحن في هذا البلد لسنا سوى أرقام إنتخابية يتاجرون بها ليصلوا إلى الكراسي. نحن مجرد كتل بشرية يتسولون بها الهبات والقروض من المؤسسات الدولية، وعند نهاية كل شهر يتسلمون أجورهم السمينة من الضرائب التي ندفعها من عرقنا.
في مدن المغرب السحيق، لا يستحق الناس أن يعلن المسؤولون الحداد إذا ماتوا بالجملة كالجراد. ولا يستحق الناس في المغرب السحيق أن يستقيل مسؤول لأن الناس ماتوا بسبب الإهمال، أو أن يسجن احدهم بسبب الفساد.
ما حدث في كلميم وورزازات في اليومين الماضيين يحدث كل يوم في أشكال مختلفة، ففي هذا البلد يمكن أن ينتظر المواطن أسبوعاً ليحصل على شهادة الحياة. وفي هذا البلد يمكن أن تنتظر يوماً وسط الطابور لتدفع فاتورة كهرباء، وفي هذا البلد يمكن أن تحضر خمس مرات في الأسبوع لتجد موظفاً في مكتبه ولا تجده. وفي هذا البلد يمكن أن تنتظر موعدا لرؤية الطبيب ستة أشهر، وربما يطول انتظارك أكثر من عام.
وفي هذا البلد يمكن أن تكون فقيراً وتصبح غنيا بين ليلةٍ وضحاها دون حساب، وفي هذا البلد يمكن أن تنهار قنطرة لم يمر على تدشينها أربعة أشهر. وفي هذا البلد يمكن لنسبك أن يجعلك وزيراً، ويمكن لجهلك أن يجعلك رئيس حكومة.
في أجمل بلد في العالم، يموت 32 شخص بسبب الإهمال، وقبلهم مات الكثيرون، ولا أحد يحرك ساكناً. وإن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم.