دخلت سوريا مرحلة جديدة بعد 14 سنة من القتل والتهجير والتدمير. هي نهاية سعيدة عاشها الشعب السوري يوم الثامن من دجنبر 2024 بعد سقوط نظام بشار الأسد أو تهاوي أركان نظامه بطريقة دراماتيكية؛ سقوط يؤشر على بداية تشكّل نظام إقليمي جديد بالشرق الأوسط، وغلق قوس الحزب الوحيد والأوحد الذي شكّله نظام حزب البعث لما يقارب ستة عقود من الزمن.
أسئلة كثيرة تُطرح حول طريقة انهيار نظام الأسد ونهايته السريعة، وعلامات استفهام عديدة تُثار حول سياق هذا السقوط المدوي لنظام بدا هشًا وضعيفًا ومعزولًا، رغم ارتباطاته وتحالفاته الإقليمية والدولية، سواء بالنظامين الروسي والإيراني. وفي معرض تحليل وفهم خلفيات انهيار هذا النظام ومحاولة استشراف مستقبل سوريا ما بعد نظام الأسد، يمكن تفكيك واستحضار ثلاث جوانب أساسية:
أولًا، اللافت أن ليلة سقوط نظام الأسد جاءت بالتزامن مع اجتماع وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا وقطر بالدوحة، وذلك قبل ساعات من وصول المعارضة المسلحة إلى العاصمة دمشق. لكن يبدو أن هذا اللقاء جاء كنتيجة للسياق الإقليمي الملتهب والمتقلب، باعتباره العامل الرئيسي الذي على الأرجح عجّل بنهاية هذا النظام. وفي مقدمة ذلك، إضعاف النظام الإيراني بفعل سياسات الإنهاك والاستدراج والإضعاف التي بمقتضاها تمكنت أمريكا وإسرائيل من تقليم أظافر النظام الصفوي وتقزيم دوره الإقليمي من خلال القضاء على بعض الرموز الدينية الحركية (نصر الله) وقطع خطوط الإمداد والدعم عن الميليشيات المسلحة (حزب الله) التي لعبت دورًا محوريًا في بقاء نظام الأسد خلال السنوات الماضية.
إضعاف النظام الإيراني وتفكيك ميليشياته المسلحة، التي شكّلت جبهة إسناد إقليمية/ ميدانية لنظام الأسد، بالإضافة إلى الحرب الروسية الأوكرانية التي أضعفت نظام موسكو، الذي بدوره شكّل جبهة إسناد دولية وعسكرية للنظام السوري، كلها عوامل ساهمت في عزلة نظام الأسد وتلاشي جبهات الدعم والإسناد الإقليمية والدولية.
ثانيًا، مع نهاية نظام الأسد، دخلت سوريا مرحلة جديدة، مرحلة تشكيل نظام جديد ومغاير، يؤسس لبناء دولة مؤسسات، وإخراج سوريا من دائرة الدول الفاشلة. لكن يبدو أن إعادة بناء الدولة الوطنية في سوريا، بالمفهوم الحديث، يصطدم بعدة صعوبات وإكراهات داخلية وإقليمية ودولية. فعلى المستوى الداخلي، تعتبر مكونات وفصائل المعارضة المسلحة غير متجانسة من حيث المرجعيات والمنطلقات الفكرية والسياسية والعقائدية والطائفية، سيما وأن هذه المكونات تضم السلفي الجهادي المنخرط في ما يُعرف بـ”هيئة تحرير الشام”، التي تُعدّ من أكبر الفصائل المعارضة، والتي تأسست في يناير 2017 بعد اندماج عدد من الفصائل كجبهة فتح الشام (النصرة سابقًا) وحركة نور الدين الزنكي (انسحبت لاحقًا) وجيش السنة، ولواء الحق، وجبهة أنصار الدين. هذا بالإضافة إلى الجيش الوطني السوري، الذي تأسس سنة 2017 ويرتبط بما يُعرف بالحكومة السورية المؤقتة المدعومة من تركيا، بالإضافة إلى فصائل صغيرة تتوزع على مختلف أنحاء سوريا.
أما على مستوى النسيج الاجتماعي وارتباطاته الخارجية، فقد تمكّن نظام بشار المنهار من جعل المكون العلوي يستحوذ على مساحة ديموغرافية بين 40 و50 في المائة من مجمل السكان، بالإضافة إلى تغيير الخريطة والتركيبة السكانية للسوريين خلال الحرب. إذ لم يعد يمثل المكون السني سوى نصف سكان سوريا بفعل تهجير ما يقارب 7 ملايين سوري خلال سنوات الحرب. بالإضافة إلى أن المجتمع السوري يتكون من خليط إثني وديني ومذهبي: العرب السنة، والمسيحيون، والدروز، والشيعة، والمرشدية، والإيزيدية، ناهيك عن المكونات القومية كالأكراد، والتركمان، والشركس، والأرمن، والعرب.
إن التنوع الطائفي والإثني، بالإضافة إلى ارتباطاته الخارجية، بات يشكّل أرضية صلبة للصراع الطائفي، خاصة وأن نظام الأسد عمل على تغذية الخلافات ذات النزعة الطائفية من أجل تأجيج الصراع لزرع الفرقة بين مختلف المكونات. معطى أساسي من غير المستبعد أن يعقّد ويصعّب دور مختلف الفاعلين خلال المرحلة الانتقالية، بالإضافة إلى صعوبة احتواء وترويض الحركات الجهادية وفق سقف الدولة الوطنية.
ثالثًا، يشكّل انهيار نظام الأسد مناسبة لإعادة رسم خريطة التحالفات والتوازنات في منطقة الشرق الأوسط، سيما وأن إيران وروسيا شكلتا أبرز دعائم النظام الإقليمي في الشام والشرق الأوسط إبان النظام السابق، مما يجعل النظام الإقليمي قيد التشكل محل صراع وتنافس بين عدة قوى إقليمية كتركيا وإسرائيل وغيرها، دون القفز على الدور الأمريكي المحوري في ميزان القوة وقدرتها الفائقة على إدارة الفوضى الخلاقة في المنطقة بما يخدم مصالحها، على غرار التجربة العراقية.
مؤشرات الصراع والتموضع بدت جلية مع إعلان نتنياهو الانسحاب من اتفاقية “فض الاشتباك” الموقعة سنة 1974 بعد ساعات، وفي نفس اليوم الذي سقط فيه نظام الأسد، مما دفع إسرائيل إلى السيطرة على المنطقة العازلة في مرتفعات الجولان بدعوى حماية أمنها بعد انسحاب وعدم تمركز الجيش السوري في تلك المناطق.
التمدد الإسرائيلي في الجولان من المرجح أن يقابله تحرك إيراني وتركي وروسي بأشكال ودعائم طائفية وسياسية مختلفة بغية الحفاظ على مصالحهم، بحكم التقارب الجغرافي والتقاطع الإثني للدولتين الصفوية والعثمانية، بالإضافة إلى تواجد قاعدة عسكرية روسية يبدو من خلالها أن موسكو غير مستعدة للتراجع عن نفوذها في سوريا.
ختامًا، وفي ظل التحولات المصاحبة لانهيار نظام الأسد، فمن المرجح أن الساحة السورية باتت مفتوحة على مختلف السيناريوهات. إلا أن إعادة بناء الدولة مؤسساتيًا وإخراج سوريا من دائرة الدول الفاشلة يعتبر رهانًا صعبًا في ظل التعقيدات الداخلية والإقليمية والدولية. إلا أن إدارة المرحلة الانتقالية وفق تصور سياسي محدد واحتواء النزعة الطائفية داخليًا، وإعادة ترميم الجيش السوري وفق عقيدة وطنية، كلها عوامل من الممكن أن تساعد على إخراج سوريا من حالة عدم الاستقرار التي طالت وتجاوز الأزمة الراهنة.