مع الاحترام و التقدير و التذكير
قلم : محمد كرم
كلما وقع بصري على صورة أحد أبرز شخصياتنا العمومية الرسمية في سياق ما يتم تداوله ضمن أشرطة الأخبار الإلكترونية المتعددة إلا و تساءلت في قرارة نفسي حتى قبل مسح عنوان الخبر بعيني : هل الأمر يا ترى يتعلق بوجه من أوجه صرف ميزانية البلاد السمينة/الفقيرة أم له علاقة فقط بمستجد من مستجدات عالم الساحرة المستديرة ؟
إن ما هو حاصل مدعاة فعلا للاندهاش و الانبهار، إذ يبدو أن هذه هي أول مرة في تاريخ مغرب الألفية الثالثة التي يتولى فيها مسؤول بدرجة وزير مهمتين مختلفتين تماما. فتارة نراه بقبعة المدبر الحكيم لمالية البلاد، و تارة نراه بقبعة الآمر الناهي في شؤون معشوقة العباد.
و بصراحة، و على الرغم من تنافر الوظيفتين، فقد أبلى صاحبنا البلاء الحسن على الواجهتين لدرجة أن إسمه أصبح على كل لسان و فرض نفسه حتى خارج الحدود الوطنية و لم يسجل في حقه أي تقصير في أداء الواجب كما أنه لم يثبت إلى حدود اليوم تركيزه على أو تحيزه إلى قطاع على حساب الآخر ما أهله لكسب احترام المغاربة و جعل سمعته محل إجماع وطني. و منذ أن عرفناه ما فتئ السيد الوزير/الرئيس يجتهد و يبتكر لإيجاد حلول ناجعة للقضايا العالقة أو الطارئة و نجح مرارا و تكرارا في ترجمة الأهداف إلى واقع، و ما إرساء أسس مشروع الدعم الاجتماعي للأسر و الزيادة الأخيرة في حجم رواتب موظفي الدولة و تمكين اللاعبات و اللاعبين و الأطر التقنية الكروية من الاستفادة من تغطية صحية و حماية اجتماعية إلا أدلة على عدالة التدبير و انتظام الاجتهاد و صدق النوايا و جدية المساعي. (هناك بطبيعة الحال جهات أخرى وراء هذه الإنجازات.)
نعم، إننا اليوم أمام ظاهرة تسترعي الانتباه حقا في مجال تدبير الشأن العمومي، إذ ليس من السهل توزيع الوقت ـ و بالتساوي تقريبا ـ بين متطلبات وزارة الميزانية و التزامات جامعة الكرة. ليس بإمكان أي كان الاجتماع صباحا مع خبراء الاقتصاد و الإحصاء و الحسابات و النظم المعلوماتية ثم الالتقاء مساء مع خبراء الضربات الترجيحية و الركنيات و الأخطاء المباشرة و غير المباشرة و البطاقات الصفراء و الحمراء و حالات التسلل ـ الواضح منها و الخفي المعقد ـ و النسب العامة و النسب الخاصة. ليس من الهين الخوض صباحا في إشكالية دعم "البوطا" ثم التفرغ مساء لبرمجة المواعيد الكروية الوطنية و القارية. ليس من المريح إطلاقا الانخراط صباحا في جولة جديدة من الحوار الاجتماعي مع ممثلي النقابات ثم التوجه مساء إلى القاهرة لحضور اجتماع للجنة التنفيذية للكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم أو السفر إلى أبيدجان لمساندة الأسود أو التحليق إلى أستراليا لمؤازرة اللبؤات. ليست لكل كوادر الدولة القدرة على الاجتماع برؤساء صنف من الأندية الوطنية صباحا ثم الالتحاق بمقر البرلمان مساء لشرح ما يجب شرحه بأحد اجتماعات لجنة المالية و التخطيط و التنمية الاقتصادية أو للرد على أسئلة نواب الأمة و التي كثيرا ما تحمل في ثناياها جرعة ملموسة من الاستفزاز المتعمد. ليس من اليسير المشاركة في الصباح في مؤتمر عالمي حول إصلاح الهندسة المالية الدولية ثم عقد ندوة صحفية في المساء بفضاء مغاير لتقديم نتائج الاتصالات الجارية مع لاعب يميل إلى تفضيل حمل القميص الوطني الإسباني على الدفاع عن ألوان الراية المغربية... و بين ما ينشغل به المسؤول إياه في الصباح و ما يملأ به وقته في المساء من البديهي أن يرد على عشرات المكالمات الهاتفية و يستقبل عشرات الشخصيات بمهام و رتب مختلفة و لأغراض مختلفة أيضا. العمل بهذه الوتيرة مع ما ينطوي عليه من ضغوط يتطلب بكل تأكيد وجود بروفايل علمي و مهني من نوع خاص.
أنا شخصيا ، و على الرغم من حبي الكبير للعمل، فإن عقلي الصغير عاجز تماما عن استيعاب هذا الصنف من جمع المهام و ليست لدي لا القابلية و لا القدرة على توزيع وقتي كمسؤول بين مؤسسة عمومية و لو كانت بحجم المندوبية السامية لقدماء المقاومين و أعضاء جيش التحرير و جامعة رياضية و لو كانت بحجم جامعة المسايفة أو جامعة الشطرنج. حتى المأكولات لا ألتهم منها سوى صنفا واحدا في الوجبة الواحدة لأن مخي ـ قبل بطني ـ لا يقبل القسمة على إثنين. حتى جوالي لا يختلف عن الهاتف الثابت، إذ غالبا ما يظل في حدود بيتي لأني أرفض أن أنشغل به و أنا وسط زحام البشر و ضجيج العربات.
و مما لا شك فيه أن الاختلافات المرصودة بين وظيفتي رجل المهام المتنوعة موضوع هذا المقال لا تهم منهجية الاشتغال و أسسه فحسب بل تتعداها إلى طبيعة القطاعين أيضا. فنحن هنا بصدد الحديث عن عالمين بخصوصيات و أهداف و رهانات و انتظارات مختلفة حد التناقض. بعبارة أوضح، الأمر هنا يتعلق في الواقع بالجمع بين الجد و اللعب. فشتان بين الانكباب على ما يرتبط بميزانية الدولة و أثر ذلك على المعيش اليومي للمواطنين و على سير الأوراش و المرافق العمومية و بين الانكباب على شؤون لعبة تتحدد مراميها أساسا في تزجية الوقت و دغدغة المشاعر المرتبطة بالانتماء القبلي أو الجهوي أو الوطني أو تلك المرتبطة بالإنتساب الافتراضي أو الوهمي لمدريد أو برشلونة . حتى إمكانية الحديث عن تكامل القطاعين غير واردة.
و انطلاقا من هذه القناعة، و على الرغم من عشقي اللا مشروط لكرة القدم و متابعتي حتى لمنافسات القسم الثاني و أبرز مباريات قسم الهواة، فإني لن أذهب أبدا إلى حد الادعاء بأن الأمم الفقيرة كرويا لا قيمة لها و لا هيبة لها و لا صوت لها و بأن عظمة الدول تقاس بقدرة أنديتها و منتخباتها على هز الشباك و من كل الزوايا الممكنة، كما أني لن اذهب أيضا إلى حد اعتبار هذه الرياضة رافعة من رافعات التنمية المادية أو البشرية، و لو كان لها دور حقيقي و ثابت في تطوير المجتمعات و تقويتها لكان للبرازيل و الأرجنتين مقعدان دائمان بمجلس الأمن الدولي و لنجحت مؤشرات النمو في إخراج قوى كروية محترمة من قبيل الكامرون و السنغال و الكوت ديفوار من دائرة الفقر و التخلف البنيوي. (بالمناسبة، حبذا لو أطلعتنا المندوبية السامية للتخطيط على نسبة مساهمة كرة القدم في الناتج الداخلي الخام ببلادنا و لو على نحو تقريبي.) و عليه، فإن من يستثمر فوق مستوى معين في هذه الرياضة بهدف تحقيق نهضة شاملة لا يختلف سلوكه في شيء عن سلوك ذلك الذي يواظب على سقي أزهار من البلاستيك و يتوقع نموها. حتى الاستغلال الأمثل للملاعب المتوفرة و التي كلف تشييدها الملايير منعدم مادام أنها تظل شبه فارغة معظم الوقت، ناهيك عن ما يعرفه داخلها و محيطها ـ و بوتيرة متزايدة ـ من كر و فر لا يكادان ينتهيان بين قوى الأمن و فئة من الجماهير تعاني الضياع.
و بغض النظر عما إذا كانت كرة القدم قطاعا استراتيجيا أم لا، أعنقد بأنه لا شيء يمنع من مواصلة الاهتمام بهذه اللعبة التي أصبحت جزءا من الهواء الذي نستنشقه و أضحت متابعة المنافسات المرتبطة بها طقسا من الطقوس المستحدثة التي تبنيناها بعفوية و عن طيب خاطر منذ عشرات السنين ... و لكن في حدود معقولة حتى لا نهمل ما هو أهم و خاصة الاستثمار في الإنسان بإمداده بالتربية الصالحة و الأخلاق الفاضلة و القيم القويمة و العلوم النافعة، و هذه مهام لا تندرج طبعا ضمن صلاحيات جهاز الكرة.
و على سبيل الختم، لا يسعني إلا أن أقول لوزيرنا المحترم و المسؤول الأول عن منظومتنا الكروية : "برافو" على الطاقة الإيجابية و الجميلة التي تحملها مع تمنياتي بأن تظل نحلة لا تكل و لا تمل و فراشة تزين الملاعب في زمن الاستحقاقات الكبرى و بأن نراك على رأس "الكاف" في المستقبل المنظور حتى يظل إسم المملكة حاضرا بمجموع القارة السمراء و لو من بوابة التسيير الكروي بعدما أبى الحظ ـ و لمدة نصف قرن تقريبا ـ إلا أن يعاكس طموح منتخباتنا المتعاقبة في الظفر بكأس قارية ثانية، كما آمل بأن يطيل الله في عمري حتى أراك في دور "أب العروس" في غمرة أعراس 2030 المونديالية.