يُحكى أن أحد الفقهاء في الجنوب الشرقي كان يقرأ بعض آيات الذكر الحكيم قُبيل شروق الشمس في إحدى القرى الهامشية في انتظار وجبة الفطور؛ قهوة وخبز، تمر وسمن، بركوكس، وكسكس، وكلها أطباق تقدم متتابعة من الشروق إلى العاشرة صباحا، وبين الطبق والآخر دردشات كثيرة في جميع المواضيع، لا يقطعها سوى صوت فقيه الدوار الذي يبدأ دون إشعار مسبق: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ليصمت الجميع ثم يبدأ بتلاوة ما تيسر من الذكر الحكيم.
هو يقرأ ما تيَسّر من آيات الكتاب المنزّل في جناح الرجال، والنساء في الجناح الآخر من منزل طيني كبير ينشدن “وَارُّو” بالخشوع نفسه الذي ينصت به الرجال للقرآن الكريم.
كان صوت النساء اللواتي يغنين بشكل جماعي ومتناسق، دون دفوف ولا مزامير، يصل إلى أسماع الرجال وهم يستعدون لتناول الفطور، ويصغون للقرآن الكريم بصوت فقيه الدوار في خشوع، لا يقطعه سوى ما تحمله الرياح إلى آذانهم من زغاريد طويلة، وألحان حزينة لهذا الإنشاد المسمى “وَارّو” أو “هِيرّو”. كان صوت القرويات، وأغلبهن تجاوزن الأربعين، جميلا جدا، والرياح تُقرّبه تارة وتبعده أخرى، وبُحة تزيده بعض التأثير السحري الذي يسلط على النفس بعض الخدر الجميل.
يضيف الرواة، والعهدة عليهم، أن الفقيه لما أنهى قراءة ما تيسر له من القرآن، كما جرت العادة، نفحه الحاضرون ببعض الدعوات بطول العمر، وتقبل الأجر ورحمة الوالدين، لكنه صاح دون أن يفكر كثيرا: “يَا لهُ من وَارُّو عذب وجميل”. وهو يشير دون وعي إلى تأثره بتلك الأصوات الرقيقة التي تغني خلف الحائط الطيني.
قال “وَارُّو إِكْرمنْ”، وتقال لوصف الماء البارد والصوت العذب وما شابه، الشيء الذي أزال الحرج عن الحاضرين، وانخرطوا في موجة ضحك جماعي، وهم الذين تحفظوا كثيرا قبل أن يأخذوا هذا الإذن الفجائي الذي لم ينتظروه.
نسوق هذه الحكاية لتبيان تأثير هذه الأهازيج ليس فقط على الشبان، بل حتى على كبار السن، وأن لهذه الألحان البدوية سحر عجيب. فالأصوات الجميلة تطرب لها الأذن مهما كانت وظيفة صاحبها، ومقدار تدينه.
لا يوجد عرس لدى أمازيغ الجنوب الشرقي دون ترديد “وَارّو” أثناء تزيين العروس، وفي جلسات الحناء في الصباح الباكر. وإلى حد الآن، ما يزال هذا الطقس الغنائي، الذي لا يقل تأثيره عن تأثير مجالس الذِّكر، يردد في أعراس الجنوب الشرقي، وإن تداخلت فيه المناجاة بين “وارو” والأدعية والبسملة وذكر بعض الصحابة والشخصيات الدينية، مثل فاطمة الزهراء وغيرها، وكلمات قديمة تعود إلى مئات السنين، أي قبل مجيء الإسلام.
“وَارّو” عبارة عن مواويل ترددها النساء المسنات في الغالب، ثم تحفظ الصغيرات مقاطعه، وينقلنه للجيل الآخر وهكذا، لكنك لو سألت امرأة عن معنى هذه الكلمات لقالت لك بأنها تلقتها بالتواتر، وبدأت بترديدها دون أن تعرف معناها، ودون أن تكلف نفسها عناء البحث عنها.
“وَارُّو يَا وَارّو.. نزّوركَ أ ربّي”، المقطع الثاني يعني باسم الله بالأمازيغية، لكن المقطع الأول يبقى مجهولا بالنسبة لجميع النساء اللواتي يرددن هذه الأهازيج بشكل آلي؛ فالتفكير في معنى هذه الكلمات ومغزاها آخر ما يشغل بالهن. ثم يتبعنه بعبارات شعرية بلحن حزين، يتمنين للعروس حياة سعيدة، فتلد أولادا كثرا وتملك ممتلكات كثيرة، وأن لها أهلاً من عمات وخالات وإخوة، سيكونون جميعهم إلى جانبها في لحظات المحن، وغير ذلك من معاني تلك الأهازيج القروية.
القبائل الأمازيغية في الجنوب الشرقي لا تستغني عن ترديد “وَارّو” في أعراسها، وإن اختلفت التسميات؛ إذ هناك من يسميه “هيرّو”. فالعرس الذي لا يسمع فيه “وارّو” لا يختلف كثيرا عن المأثم.
بين من يقول بأن أصله من الأهازيج القديمة التي احتفظت بها هذه القبائل قبل دخول الإسلام إلى شمال إفريقيا، ومن يقول بأن “وَارّو” تعبير عن الشكر لإلهة الفرح الأمازيغية في المعتقدات القديمة، كانت هذه القبائل تقدم لها قرابين الشكر على دوام الأفراح، خاصة وأن هناك من يعبر عن فرحه عندما يتحقق له شيء جميل بقوله ” إِوْرّونْوْ” أو “أعْرِّينو”. ثم هناك من يربطه بإلهة الإغريق هيرا إلهة الزواج، زوجة زيوس، لاسيما وأن مجموعة من التجمعات السكنية والقبائل تردد باللحن نفسه “هيرا وارو” مع الحفاظ النسبي على بقية الكلمات.
ما تزال النساء إلى حد السّاعة في الجنوب الشرقي، خاصة في بعض القبائل، تردد هذه الأهازيج في كل أعراسها، وكل اللواتي سألناهن عن معنى “هيرو” أو “وارو” يعتبرن السؤال سخيفا، وكأنه يُطرح عليهن لأول مرة، فلا يقلن شيئا. أما اللواتي تكرمن بتقديم إجابة غير مُقنعة، فيقلن بأنه غناء، مثله مثل “أحيدوس” و”أحلاكسا” وغيره، وإن كان مرتبطا أكثر بنساء أكبر عمرا من اللواتي يملن إلى الألحان الشبابية السريعة.
قد يُجهل معنى هذه المواويل الحزينة؛ لأنها لم تنل حقها من البحث والتنقيب، إلا أن تأثيرها على الوجدان كائن لا يُنكر، مما يجعلنا نتأكد أن الفن هو ما يطربنا، وليس بالضرورة ما نفهمه.