شتان بين استعباد هؤلاء وأولئك؛ فلا ينبغي أن نكتب في موضوع الرق؛ أي استرقاق ذوي السحنة السوداء من البشر؛ ممن ينتمون إلى بلاد السودان، وهي مُعظم الأراضي الواقعة جنوب الصحراء الكبرى؛ في العالم الإسلامي بعامة، أو في بلاد المغرب بخاصة؛ إلى حدود نهاية القرن التاسع عشر؛ من نظرة الغربيين لاستعباد سكان إفريقيا السود، أو نستقي منطلقاتنا وتصورنا وفرضياتنا من كتابات المؤرخين الغربيين، وهذا ما نبه إليه الأستاذ محمد مرزوق؛ في كتابه المسمى بــ”دراسات في تاريخ المغرب”؛ الصادر عن دار النشر “إفريقيا الشرق”؛ في سنة 1991م؛ في مقال عنوانه: “قضية الرق في تاريخ المغرب”؛ في الصفحة السابعة منه؛ قائلا بأن قضية الرق في المغرب مازالت “لم تحظ بعد بالعناية الكافية من طرف الباحثين المغاربة، والعرب بصفة عامة؛ مما ترك المجال مفتوحا للدراسات الغربية التي تنظر إلى القضية بوجهة نظر أوروبية، أي في النهاية النظر إلى تاريخ الرق في المغرب بنفس نظرتها إلى تاريخ الرق في أوروبا؛ في حين أن الاختلاف واضح…”؛ ذلك أن استعباد سكان إفريقيا السود من طرف الأوروبيين؛ من حيث الزمن، أو العصور التاريخية؛ جاء متأخرا، ومتطورا؛ عن استرقاق المسلمين لزنوج إفريقيا الغربية، وظروف وشروط ظهورهما كعلاقات اجتماعية، وتجارية، وتركيبة سكانية؛ تختلف بين ما كان سائدا في شمال غرب إفريقيا، وبين ما قد عرفته أوروبا في استحداث الدولة الحديثة، واكتشاف خطوط بحرية أخرى في المحيط الأطلنتي؛ للتجارة مع أقوام ما وراء البحار؛ فقد كان التنافس بين الإمبراطوريات البحرية على أشده (البرتغال، وإسبانيا، وهولندا، وفرنسا، وإنجلترا)؛ في العصر الحديث، وكانت هناك حاجات ومطالب ملحاحة أفرزها تطور تلك الدول الحديثة.
من هنا يمكن أن نقول، وانطلاقا من تاريخ النظم والمؤسسات؛ أن استعباد الأوروبي لسكان غرب إفريقيا السود؛ دُشِّن من البداية مؤسسةً تجارية؛ تلعب دورا رئيسا في تطورها الاقتصادي؛ كما هي حاجة الدولة الحديثة دائما إلى مؤسسات صناعية وتجارية، وكانت مُنظمة على أحسن وجه، وأحد العوامل في ظهور اقتصاديات المحيط الأطلنتي المتطورة، وفي مرحلة من تاريخ الاقتصاد البشري؛ تمتد من سنة 1800م؛ إلى حدود سنة 1945م؛ لتبدأ بعد هذا التاريخ مرحلة اقتصاديات المحيط الهادئ، ترتب عن ذلك تهجير أعداد مليونية من الأفارقة الزنوج إلى أوروبا، وإلى دول قارة أمريكا، وما ترتب عنه من استضعاف، وقهر، وتعذيب، واستغلال غير آدمي، وموت النصف منهم؛ قبل أن تطأ أقدامهم السوداء الحافية أرض العالم الجديد، وتسطع شمسها على أجسادهم العارية الكحلاء، لأن الجشع التجاري الثلاثي كان قد غلب.
أما استرقاق أهل بلاد المغرب للسود الأفارقة، فهو أمر يخالف ذلك؛ أنه أولا لم ينفع هذه البلاد فتيلا؛ لا في (التجارة) به، ولا في تنمية اقتصاد تُنافس به دول أوروبا الحديثة في القرون السابقة لزوال الرق؛ فنتساءل: أسُخّر رقيق المغاربة في المزارع والضيعات؛ مثل مزارع القطن في ولايات أمريكا الجنوبية، وفي ضيعات قصب السكر، وإنتاج أوراق التبغ في كوبا، وضيعات البن والكاكاو في البرازيل، وضيعات الموز والأناناس الموجهة غلته للسمسرة في الأسواق التجارية؟ نعم كوّن الأتراك من العبيد جيش الانكشارية، وكوّن المولى اسماعيل (1645م-1727م) منهم فرقة حاملة للسلاح؛ إن شئنا فإننا نقول بأنها مؤسسة جُند، وتطلبت العملية أمرا صادرا منه، وفيها تجميع للرقيق من مختلف مناطق المغرب، إماء وعبيدا، وأداء اليمين من طرفهم على صحيح البُخاري، ومن هنا كانت تسميتهم بـ(جيش البخاري)، وفيه كانت معارضة من طرف البعض من المجتمع المغربي؛ جزِعا من المنافسة.
فالذي سُخر فيه عبيد إفريقيا، وجُلبوا، وبيعوا من أجله؛ هو العمل خُدّاما وخادمات في قصور السلاطين، وبيوت الميسورين من المسلمين، وفي البناء… إلخ، أما شراء أمة أو جارية من طرف المسلم العارف بدينه، للاستمتاع بجسدها الناعم الملمس، والفاحم لون بشرته، وقضاء الوطر منها، فهذا نتناوله في ما يأتي من قول…
هناك من الكُتاب المغاربة من تطرق إلى هذا الموضوع، وكان في أول الأمر-كما قال- يعتقد أن بعض المؤرخين الغربيين يتحاملون على المسلمين في كتاباتهم فيه، وبعد أن استخَلَص لنفسه ولنا، بأنه حقيقة؛ بعد أن اطلع على ما أدلى به مؤرخنا أبو العباس أحمد بن خالد الناصري (1835م- 1897م)؛ في مؤلفه القيم: “الاستسقا لأخبار دول المغرب الأقصى”؛ من كلام يصور بشاعة الاسترقاق عند المسلمين.
فلو اطلعنا على مجال دراسي آخر؛ نوظف فيه علما من العلوم المساعدة للمؤرخين، وهو التقلبات المناخية؛ نجد كما وجد الذين بحثوا في هذا؛ أن هناك علاقة بين المناخ وتقلباته، وما أصبح يُصطلح عليه بـ(العبودية الحديثة)، ونستنتج من هذه أولا أن الرق حاضر زمانا ومكانا؛ لتغيّرت معالجتنا لظاهرة الرق التاريخية في العالم الإسلامي، فالقضية يُستحب أن تُدرس في سياقها التاريخي ومن كل جوانبها، لا أن يكون المنطلق مما ورد سابقا عند بعض المتطرقين لاستعباد البشر من ذوي الخلقة السوداء؛ فهو ضيق، فلا نعرف مجتمعا أو بلادا بدون انفلاتات، ولا كل من يحرم ويحلل لدماء انتماء تجري في عروقه، أو رغبة أو نزوة جمحت به؛ دفعته إلى أن يستلذ بأمة جُلبت؛ إما باستدراجها إلى ما تفتقر إليه كإنسانة، أو لِفاقة أو جوع.
فأثر التغيرات المناخية السلبية؛ نعرف حدته على المستوى المعيشي للمتضررين به، و(العبودية الحديثة) التي لا فرق بينها وبين العبودية القديمة؛ الذي أفرزه هو تشغيل الأطفال، وتشغيل الخُدام والخادمات في البيوت، وأجور الـمَدِينين، وعاملات الجنس في بيوت الدعارة، والزواج المبكر والقصري، والأشخاص في وضعية اجتماعية غير مُستقرة، فيتنازل من أجل قوت يومه الجائع عن حريته للآخر، ولنفس الأسباب باع المغاربة بعضهم البعض عبيدا وإماء إلى البرتغاليين؛ في عهد حكم الوطاسيين للمغرب؛ على إثر مجاعة 1520م.
وقد ظهر للأستاذ محمد مرزوق، في المقال نفسه؛ في الصفحة السابعة منه، وفي الكتاب نفسه اللذين ذُكرا من قبل؛ وعلى المستوى الاجتماعي؛ في أن العلاقة تختلف “بين العبد وسيده في المغرب عن العلاقة بين العبد وسيده في أوروبا، فمعاملة المغاربة للعبيد كانت -بصفة عامة- معاملة إنسانية، فقد كان العبد جزءا من العائلة، حتى أن بعض العبيد يذهب إلى حد رفض الحصول على الحرية، كما كان بإمكانه أن يصل إلى المستوى العلمي لسيده، وربما يفوقه…”.
ونستثني من الدارسين الغربيين؛ من شيعة أولئك الذين يتناولون موضوع الرق في العالم الإسلامي؛ بموضوعية صارمة -ورغم ذلك قد تكون لهم خلفيات منطلقها المنهج الأوروبي- بعض الرحالة الأوروبيين، وإن كان المؤرخون المسلمون العرب، والذين ترعرعوا في تربة اللغة العربية، هم أدرى بشعاب العالم الإسلامي، وبتاريخ البادية والقرية والمدينة؛ ذوات علاقات اجتماعية تاريخية خاصة؛ من بين أولئك الأوروبيين الذين قدموا إلى المغرب؛ في القرن التاسع عشر؛ الرحالة والطبيب الأيرلندي (أرثور ليرد؛ 1822م- 1879م؛ Arthur Leared)؛ قال بأن العبد كان يعتبر من بين أفراد العائلة المغربية، ويحظى بحقوقه في التعليم إلى جانب المغربي الحر؛ هما على حد سواء في ذلك، وهذا لم يُعمل به إطلاقا في المجتمع الغربي؛ قبل تحرير العبيد، والأمرّ منه؛ أن الميز العنصري ظاهرة مازالت ملاحظة للعيان في تلك المجتمعات.
والسؤال الذي يصحح نظرة البعض منا إلى الرق؛ ممن ينساق إلى كتابات الغربيين؛ هو: هل احتاج اختفاء اتخاذ ذوي السحنة السوداء عبيدا في المغرب؛ بعد القرن التاسع عشر؛ إلى سن قوانين تُحررهم من ربقة أسيادهم؛ وتلغي الرق بصفة نهائية؛ وقد تكون بين مؤيد ومعارض، أو إلى ثورة من طرف المستعبَدين؟
ولم يتطلب الأمر مذهبا أو أطروحات أو فريقا من المفكرين والأدباء؛ إلى تبني القضاء على الرق كما جرت به العادة في العالم الغربي؛ في القرن التاسع عشر.
فكانت للغربيين معاملة مطبوعة بشجعهم الرأسمالي تجاه رقيقهم، واستغلال قدراته الجسدية الفاحش؛ وكان للمسلمين رفق برقيقهم، وكانت أبواب عتق رقابهم مفتوحة.