أشقاء في الحرب الباردة
بقلم : عبد الإله شفيشو
جذور الأزمة :
ليعرف القراء و للوهلة الأولى زاوية معالجة لهذا الموضوع الكبير الشائك على أن هذا المقال لا يدافع عن نظام حكم بعينيه في كلا الدولتين فهم في كل الأحوال فظلوا حساباتهم و مصالحهم الضيقة على حساب مصالح شعوبهم في الحرية و العيش الكريم، بل سيقف - المقال - عند محطات بعينها يمكن أن نفسر بها الأزمة الحالية بين المغرب والجزائر وهي حلقة فقط من مسار طويل متأزم في العلاقات الثنائية بين الطرفين والتي لم تشكل لحظات الود والصفاء سوى استثناءات معدودة على رؤوس الأصابع للأسف الشديد فالقاعدة هي التوتر والصراع، وليدرك القراء دون شك أن قضية الصحراء هي ما نقصد في زاوية المعالجة هذه وبكل ببساطة العداء المستحكم والدائم للمغرب ووضع حجرة في حذائه تسمى مشكلة الصحراء الغربية فالمتأمل في العلاقات المغربية الجزائرية انعكست تلك الأزمات المفتعلة سلبا على الشعبين الشقيقين اللذين تربط بينهما أواصر الدين والتاريخ واللغة والنضال المشترك بل والمصاهرة العائلية والدموية في كثير من الحالات لاسيما عبر المناطق المتاخمة والحدودية لكلا البلدين ، فلم يفلح عقلاء وحكماء الطرفين لحد الساعة في فك العقدة ووضع حد لما يمكن تسميته بالحرب الباردة بين الجارين الشقيقين اللهم إذا استثنينا عقلاء الرواية والأدب والشعر الذين يجتمعون أحيانا هنا وهناك بعيدا عن معمعان السياسة ومقالبها ومناوراتها المدمرة .
تحتفظ الذاكرة المغربية والجزائرية بأشكال من الكفاح المشترك ضد الاستعمار بل إن المغرب في واقع الأمر شكّل سندا للجزائر في ثورتها كما تؤكد ذلك كثير من الوقائع والوثائق التاريخية بحيث كانت المدن الشرقية المغربية ومدينة وجدة أساسا ملاذا لقادة التحرير ومركزا لانطلاق التعبئة والحشد ودعم الثورة الجزائرية بمختلف الأشكال، فلم تكن هناك فروقات حادة بين المغرب والجزائر سواء على مستوى النسيج الاجتماعي وعلاقات المصاهرة والرحم والثقافة أو على المستوى السياسي ومقاومة الاستعمار منذ "الأمير عبد القادر" إلى ثورة التحرير إذ رفض ملك المغرب الراحل "محمد الخامس" تسوية الحدود في الصحراء الشرقية مع فرنسا باعتبار ذلك سيتم مع الأشقاء الجزائريين بعد التحرير لأهم المشترك ووحدة المعركة ضد المستعمر إذ أي تسوية مغربية فرنسية للحدود حينئذ كانت ستمنح شرعية للاستعمار الفرنسي للجزائر وستضرّ بنضال الجزائر في مسارها التحرري.
على مدار تاريخهما المشترك كانت مشكلة الصحراء الغربية شوكة في جنب العلاقات الجزائرية المغربية والسبب الرئيس للعداء بين البلدين فالمغرب يعتبر المستعمرة الإسبانية السابقة جزءاً لا يتجزأ من أراضيه ويعتبر هيمنته عليها مسألة كرامة وطنية تعتمد عليها سياساته الخارجية أما الجزائر فتدعم "البوليساريو" التي تطالب باستقلال الإقليم ، لكن وعلى الرغم من محورية قضية الصحراء الغربية في الصراع المغربي الجزائري إلا أنها في الحقيقة ما هي إلا ذريعة يستند إليها البلدان لتبرير تناحرهما المستمر وتغطية السبب الحقيقي للصراع وهو التنازع على الأرض والرغبة في السيطرة الإقليمية التي هيأت التربة لاندلاع حرب بينهما تركت أثرا لا يمحى في جسد علاقاتهما، وبحلول ستينات القرن الماضي ازداد التباعد الكبير في المسار السياسي والأيديولوجي بين الدولتين حديثتي الاستقلال وضوحاً خاصة عندما رحبت الحكومة الجزائرية الاشتراكية باستقبال شخصيات يسارية من المعارضة المغربية على أراضيها وسمحت لها بالعمل في جامعتها المرموقة حينذاك.
صيرورة الأزمة :
كانت السنوات الخمس الأخيرة علامة فارقة في هذا التنافس بامتياز فقد ركز المغرب جهوده بشكل دؤوب على العودة إلى إفريقيا جنوب الصحراء من بوابة المشاريع الاستراتيجية والزيارات الرسميّة المكثّفة للمسؤولين المغاربة وصولا إلى تخلّي المغرب عن سياسة الكرسيّ الفارغ ضمن الاتحاد الإفريقي في 2017 بعد 33 سنة من الغياب عن المنظمة القاريّة الأبرز احتجاجا على قبول عضويّة البوليساريو، في المقابل اتجهت الجزائر إلى دعم تواجدها في الفضاء الإفريقي عبر الطريق الصحراوية التي تربط مدينة تندوف الجزائريّة بموريتانيا تعزيزا للارتباط الإفريقي للجزائر مع القلق الجزائريّ الملحوظ، خصوصا من المؤسّسة العسكريّة من عمليّة فتح قنصليّات أجنبيّة في الصحراء الغربيّة الذي يعدّ بالنسبة لها نذيرا لاعتراف دوليّ واسع بمغربيّة الصحراء.
جاءت أحداث الكركرات التي وقعت يوم 13 نوفمبر 2020 على حدود الصحراء الغربية وما أعقبها من اعتراف أميركي بسيادة المغرب على الصحراء السبب المباشر في تأجيج الوضع والدفع بالتوتر الذي كان متخفيا ومنضبطا بحدود معينة إلى الخروج للعلن في تصريحات متشنجة هنا وهناك مما يشير إلى أن العلاقة بين الدولتين الجارتين دخلت منعطفا جديدا قد تكون له تبعات سلبية وهو ما تجلى في رد الفعل الجزائري الحاد الذي سعى إلى تصوير المغرب كونه عدوا ويشكل تهديدا، بما يشبه خطاب الحرب الباردة التي تعمل على توظيف سردية تقوم على الحشد النفسي والتعبئة ضد خصم خارجي لصرف النظر عن قضايا رئيسية، مقابل هذه الدوافع والمسارات التي اتخذتها العلاقة الجزائرية المغربية أو تغذى عليها النزاع فإن المغرب باستثناء نقطتين اثنتين مسيئتين لصورة المغرب يظل نهجه يتسم بالهدوء في تدبير العلاقة ونقصد بهما مسألة التطبيع وتصريح وزير الخارجية الإسرائيلي في ندوة صحفية بحضور وزير خارجية المغرب الذي أشار فيه إلى الجزائر من الرباط من دون رد من المغرب ثم إثارة نقطة القبائل في الأمم المتحدة أي تذكير الجزائر بمخاطر الانفصال.
المتأمل لاتهامات الجزائر المتتالية للمغرب والبلاغات الصادرة عن جبهة البوليساريو يقول إن المنطقة على أبواب حرب لا تُبقي ولا تذر فدائما ما تؤكد الجزائر أن تحركات المغرب لن تمرَّ دون عقاب خاصة أن أغلب مشاكلها الداخلية والخارجية متأتية منها وما الاتهامات الأخيرة إلا رسائل جدية لاستعداد جيشها للخيار العسكري في أي لحظة، بدورها ما فتئت جبهة البوليساريو حليفة النظام الجزائري تؤكد قصفها لمواقع من تصفه بـالمحتل المغربي مخلفة خسائر كبرى في العتاد والجنود المغربي، هذا بالتزامن مع قرار المغرب إنشاء منطقة عسكرية جديدة على حدوده الشرقية مع الجزائر الأمر الذي يعتبر تحولًا غير مسبوق في استراتيجيته الأمنية، بوادر الحرب تظهر أيضًا في سباق التسلح الذي تشهده المنطقة إذ يحاول كل من المغرب والجزائر تكثيف صفقاتهما العسكرية وتنويع تحالفاتهما في المنطقة فضلًا عن الحصول على التقنيات المتطورة والبحث عن منافذ استخباراتية جديدة.
خلاصة استشرافية:
انتهت حرب الرمال بين الجيش المغربي ونظيره الجزائري (أكتوبر 1963) إلى ما انتهت إليه بين الأشقاء لكن بقيت رواسبها النفسية والسياسية مستمرة لحد الآن هذه المحطة تفسر في جوانب كثيرة طبيعة الصراع الحالي وخلفيته في المنطقة رغم اتفاقية حسن الجوار التي وقعها كل من الراحلين الملك "الحسن الثاني" و الرئيس "الهواري بومدين" بداية السبعينيات من القرن الماضي رغم ذلك لم تلطف الأجواء بين الأشقاء، لكن لم تنتهي الحرب الباردة بين الأشقاء حيث استمر العداء بين النظامين المغربي و الجزائري ولازال ثابتا يطفو على السطح بمناسبة أو بدونها و التي لا يستفيد منها إلا الإمبرياليون مصاصو دماء الشعوب تلبية لمطامعهم التوسعية و هيمنتهم على المنطقة.
تأسيسا على ما سبق، تصبح احتمالات تسوية الخلافات المغربية الجزائرية وحصول انفراج في العلاقات البينية مسألة مستبعدة في المستقبل بل إن الأفق الأكثر احتمالا هو استمرار الوضع الحالي والذي يشبه حالة حرب باردة متحكم فيها، إن الأمر يتعلق في كلتا الحالتين بـالأمن القومي ففي السابق كان هناك توازن قائم على سيطرة المغرب الفعلية على الصحراء الغربية والرفض الجزائري القائم على القانون الدولي مع تكافؤ عسكري معين في الجانبين ليتم تجميد الصراع مع تجنب الجهات الأجنبية التدخل ما أدى إلى تكريس الوضع القائم.
الجديد الآن هو أن المغرب لا يريد العودة إلى التوازن السابق والجزائر لا تريد قبول الوضع الجديد فهي تشعر بأنها مضطرة للرد لأن عدم القيام بأي شيء من شأنه أن يبعث برسالة مفادها أن الجيش المغربي يمكنه مهاجمتنا، ومع ذلك من غير المحتمل حدوث مواجهة مباشرة فالجزائر عوض ذلك ستزيد من دعمها لجبهة بوليساريو .
يبقى التساؤل المطروح إلى متى ستظل شعوب المنطقة تؤدي ثمن جريمة تاريخية أفرزتها حرب الرمال؟.