طاحونة الحزب الحاكم الجديد!
بقلم ا نعيمة قربع
مشهد دام سنوات وسنوات في قرية منسيّة عارية مغبرّة تحاصرها الجبال وتحجبها الغابات.. تكرّر طويلا بلا تغيير ولا تجديد .. نفس الدّيكور.. نفس الملامح تحملها جلّ الوجوه .. نفس الأحاديث تتردّد ..نفس التّحايا ونفس الحركة تدبّ كلّ يوم في أوصال الدّروب وحتّى البيوت …
دكّان العمّ “بشير” الشّيخ الثّمانينيّ وهو الدّكّان الوحيد في القرية كان دائما ومنذ سنين ملتقى شيوخ و كهول .. يجلسون أمامه على أحجار غدت ملتصقة بالأرض لطول مكوثها في نفس المكان بلا حراك مجلسا على بساطته وألفته وتكراره واستهزائه بالفصول و الزّمان لا يخلو من طبقيّة ومغزى …كانوا صورة فوتوغرافيّة معلّقة على جدار القرية تحكي في هدوء أحوالها وتختصر أناسها وحكاياتها وتعاستها …هذا الحجر” المريح” كان دائما للعمدة يمنحه مشهدا بانوراميّا .. كان يستطيع وهو جالس يرشف شايه الثّقيل أن يراقب بيته وطاحونته الخرساء في أغلب الأوقات وأن يعرف ما يجري في المقهى المقابل دون أن تفوته رؤية السّيّارات المارّة عبر الطّريق الوحيدة المعبّدة .. حجر آخر بجانبه لصاحب الدّكّان العمّ “بشير” الذي تملك عائلته أكثر من نصف الأراضي المحيطة بالدوّار … آخر ” نحيل ” غير مريح ذو نتوءات كان دائما من نصيب أصغرهم سنّا عمّ “يونس” .. كهل عرف بتأتأة و تلعثم جعلا شخصيّته تبدو ضعيفة مهزوزة مطبوعة بالخجل وطول الصّمت.. كان يتابع أدقّ تفاصيل الأحاديث صامتا هادئا رغم أنّه اشتهر بذاكرته القويّة التي لا تفرّط في تاريخ حادثة أو مناسبة مهما كانت بسيطة ومهما تراكم عليها الزّمان و بمعرفته الدّقيقة بشبكة علاقات القرابة والمصاهرة ومن وفد إلى القرية واستقرّ فيها ومن جذوره ضاربة في أعماق تربتها .. لا يتكلّم إلّا إذا سئل ولا يزيد على الجواب ولا يتدخّل حتّى حين يخطؤون …
مقهى القرية وهو أيضا المقهى الوحيد هو عبارة عن غرفة كبيرة ناتئة في العراء وهي كذلك مجتمع كهول وشباب كثيرين يجلسون داخلها وأمامها في كلّ الأوقات .. يلعبون الورق .. يخطّطون للسّفر .. يتذمّرون .. يتأفّفون وأحيانا يتشاجرون ويعلو صراخهم وتبلغ شتائمهم عنان السّماء وقد تتشابك الأيدي وتتطاير الكراسيّ المهترئة في الهواء .. ثمّ لا يلبثون أن يعودوا إلى ما كانوا عليه …
وسواء أمام الدّكّان أو في المقهى أو في أيّ مكان آخر لم تكن لتسمع أحدا يتحدّث عن السّياسة والسّياسيّين … كلّ ذي سلطة أو وظيفة مرموقة ومن يعمل شرطيّا ومن يظهر في الإعلام حتّى من يوزّع فواتير الكهرباء كانوا يدعونه ب ” الحاكم ” تذبل عيونهم أمامه وتتحجّر ألسنتهم في أفواههم … كان إذا زلّ لسان أحدهم وذكر اسم الرّئيس أو أحد أصهاره فكأنّما ألقى قنبلة .. يفزعون .. يلتفتون إلى بعضهم البعض .. تتغيّر سحناتهم وتذوي .. و قد يؤنّبه أحدهم أو يصرخ فيه صارخ : ” لا نريد خرابا لبيوتنا ” ” للجدران آذان” ” من خاف سلم “…
خالتي شريفة ” الهجّالة” أو كما يسمّونها أيضا المجنونة هي وحدها التي تجرؤ على كلّ شيء وخصوصا على رفع صوتها عاليا .. لسانها يقذف سبابا و شتائم مخجلة .. لا تستطيع حتّى حين المزاح ألّا تلعن هذا و تصيب كبرياء ذاك في مقتل .. كثيرا ما تأخذها رغبة جامحة في إذلالهم و السّخرية منهم و تستمتع حدّ الانتشاء بارتباكهم .. تقهقه من صمتهم المفاجئ و حرجهم حين تسبّ أمامهم الرّئيس و أصهاره و حتّى أجداده و أجدادهم الأوّلين .. تلاحق خرسهم .. تهزأ من تغييرهم للموضوع .. ولا يبقى في الأخير غير صوتها يدوّي في المكان و يتردّد صداه .. ” خوّافون .. جبناء .. لستم رجالا .. ليس فيكم رجل واحد .. أروني رجلا واحدا…” كان العمدة ينال النّصيب الأوفر من شتائمها و سخريتها .. تدعوه بالسّارق والواشي والتّابع الذّليل … حاول مرّة أن يغريها بالمعونات المكدّسة في مخزن بيته .. أغطية صوفيّة رماديّة اللّون كتلك التي يعرفها المساجين في السّجن .. علب طماطم و قوارير زيت رخيص .. أكياس طحين و سكّر … يومها جعلته أضحوكة و فضيحة و قد يكون تمنّى موتها …
هذه العجوز النّشيطة القصيرة الحاضرة البديهة المنفلتة اللّسان الجوّابة للطّرقات السّائرة في الحقول لا تعاف عملا ولا تخشى شخصا ولا تخاف على شيء عندها لأنّها لا تملك شيئا .. تسكن كوخا طينيّا مع دجاجات وعنز .. لا زوج لها و لا ولد … علاقتها بنساء قريتها بلا عواصف ولا غضب تقريبا .. هي أهدأ وألطف رغم أنّها لا تتوانى عن تعييرهنّ و دعوتهنّ بالخرساوات و السّجينات .. ولم يكنّ يغضبن منها أبدا بل على العكس كنّ يحببن دعوتها لبيوتهنّ وشرب الشّاي عندهنّ .. يستمتعن بأحاديثها كثيرا .. يسألنها بم شتمت فلانا ؟ و كيف كان تصرّفه ؟ كيف تلوّن وجهه ؟ وبم ردّ عليها ؟ يضحكن كثيرا .. يبدين شماتتهنّ .. تعلو قهقهاتهنّ إلى أن تسيل دموعهنّ .. و كأنّهنّ ينتقمن بها من خجلهنّ و وجلهنّ و ما يجيش في صدورهنّ و بيوتهنّ … و عند مغادرتها يتسابقن لإهدائها أرغفة ساخنة شهيّة من صنعهنّ … يكتم الرّجل أخا أو زوجا أو أبا أو ابنا غيظه وانزعاجه حين يراها خارجة من بيته أو واقفة على أعتابه فلا يجرؤ على طردها أو إظهار ما اعتراه خشية أن تمسح برجولته الأرض وتعرّيه بلسانها الذي لا يرحم …
كان هذا حال القرية المنسيّة تكرّر وتكرّر ..عاشه الكهول مذ كانوا شبابا و الشباب مذ كانوا أطفالا .. لم يكن الزّمن يضيف غير الغبار وبعض التّجاعيد إلى الوجوه الكالحة المتعبة …
اليوم .. أربع سنوات فقط مرّت على هروب الرّئيس أو اختفائه أو….. ( تقول خالتي شريفة إنّ لعناتها قد أصابته ) و كأنّ زلزالا حرّك القرية من مكانها .. كأنّ الزّمان تذكّرها فجأة .. تغيّرت ملامحها حتى لم تعد تعرفها .. لا شيء فيها بقي كما كان .. لا يوم يشبه آخر .. حتّى ذلك الرّوتين الذي كان أهلها يتذمّرون منه تغيّر .. لم يعد هادئا مألوفا .. أصبح مشحونا ريبة غموضا انتظارا توتّرا … أصبح هدوءا يسبق عاصفة ما .. تغييرا ما .. حدثا ما … شيء ما حدث تحت جنح الظّلام … كأنّ طائفا طاف بالجميع واحدا واحدا .. جعلهم قالبا واحدا جديدا .. يتكلّمون بلسان واحد .. نبرة جديدة غزت أفواههم .. اتّفقوا كما لم يتّفقوا أبدا على شيء ما .. أو على صمت على شيء ما … ماذا حدث ؟
جميعهم يتحدّثون اليوم في السّياسة .. يفهمونها .. يعرفون كلّ شيء عن كلّ السّياسيّين .. يسبّونهم كلّهم .. يسبّون الرّئيس السّابق و اللاّحق .. علاقاتهم .. حركاتهم و حتّى صراخهم و خصوماتهم كلّ شيء أصبح ممزوجا بالسّياسة ومصطبغا بها…و لكن توجد منطقة .. نقطة وحيدة لا يريد أحد ولوجها .. حلقة تمّ إخفاؤها بإحكام .. يدرون بها أو لا يدرون … يحسّون بها أو لا يحسّون … لا يجيبون .. هم فقط يتكلّمون و يتكلّمون .. يتكلّمون كثيرا ربّما انتقاما من صمت مضى .. و لكنّهم لا يقولون شيئا .. و قليلا ما يندهشون ممّا أصابهم و قريتهم وكلّ البلاد .. وحتّى إذا اندهشوا لا يتساءلون …
اختفى رقم ( 7 ) الذي كان مجسّما كمارد على مدخل القرية وظهر مضاعفا مكتوبا على لوحة رخاميّة في بطحاء مغبرّة سمّيت ساحة ( 14 جانفي ) … كما اختفى كثير من الشباب …” سالمة ” التي لم تدخل قطّ دكّان العمّ بشير ولا مرّت يوما أمام المقهى ظهرت على التّلفاز.. نعم على التّلفاز.. تبكي و تتوسّل عودة ابنها من سوريا… أصيب العمّ يونس بجلطة فلم يعد يغادر بيته و لم يعد أحد يسأله عن شيء أو يحتاج معرفة تاريخ مناسبة ما … الذّكريات و التّأريخ وعلاقات القرابة أصبحت ترفا لا يحتاجونه … أحد أحفاد العمّ ” بشير ” فتى بسيط حدّ السّذاجة .. لم يقرأ في حياته كتابا ولا عانى فقرا .. كان يلازم جدّه كظلّه ويساعده في الدّكّان الذي كان سيؤول إليه لا محالة فجّر نفسه وسط سيّاح في مدينة بعيدة وهو يصيح مكبّرا… يقال إنّ أمّه أطلقت الزّغاريد في جنازته احتفاءا باستشهاده وعاد الرّجال بعد الدّفن مترحّمين عليه رغم أنف من قال عنه إرهابيّا و ذبحت الخرفان وأطعم الطّعام صدقة على روحه .. و تهامس المتهامسون بما تهامسوا … بني جامع فخم ذو صومعة مكان القديم الذي كان في حجم المقهى .. و أصبح العمدة إماما خطيبا يجلجل صوته عبر المكبّر بالوعيد بعذاب القبر والآخرة للكاذب و السّارق و الظّالم و الزّاني و الخارجة عن طوع زوجها … و أصبح له طابع صلاة في جبينه …
خالتي ” شريفة ” أيضا تغيّرت .. أصبحت تصاب بنوبة غضب هستيريّ و صرع وجنون كلّما رأت العمدة الإمام .. تجري نحوه تسبّه تبصق في وجهه بملء فمها .. تحاول ضربه .. أحيانا تقذفه بحجر فيتدخّل أصفياؤه الذين سرعان ما يشكّلون حوله حلقة لحمايته وهم يحوقلون و يسترجعون ويؤكّدون لبعضهم البعض أنّ مسّا شيطانيّا أصابها لأنّها لم تصلّ يوما في حياتها ولذلك فإنّ مرأى الإمام و المسجد وصوت الأذان يصيبها بالجنون و يتراهنون أنّ خاتمتها ستكون أليمة… لم يعد حديثها يمتع كثيرا نساء قريتها و لا شتائمها للرّجال تطربهنّ وعندما تسبّ أمامهنّ الإمام يستنكرن و يستغفرن و يدعين لها بالهداية و التوبة قبل الموت و بعضهنّ يصمتن … تغيير آخر .. صاحب المقهى أصبح معلّما في إحدى مدارس مدينة مجاورة .. يقدّم نفسه أنّه من ضحايا النّظام البائد و أنّه دخل السّجن … و الغريب أنّه أصبح عدوانيّا و ذا سطوة و شأن بين زملائه .. زميلاته لا يصافحهنّ و لا ينظر في وجوههنّ و رغم ذلك كثيرات منهنّ ينقلن إليه ما فاته من أخبار وأحاديث و ينتظرن رأيه قبل كلّ حركة و كلمة و موقف .. صداقته مع المدير و نبرة الاتّهام في صوته الحادّ و نظرات الهجوم في عينيه و جملته الشّهيرة التي يلقيها كحجر في وجه من يناقشه ” أين كنت قبل 14 جانفي ؟ ” كلّ ذلك و ربّما أشياء أخرى جعلته في وقت وجيز مهابا بل و مخيفا يتودّد إليه الكثيرون و يبدون له الاحترام و التّبجيل و يشيدون بنضاله و مجده و يذكّرون بتضحياته و يستجدون ابتسامته المطّاطيّة …
تغييرات كثيرة جدّا …
عدا ذلك مازالت القرية بلا صيدليّة … ومازالت بدكّان وحيد ولكن تناقصت بضاعته و تعرّت رفوفه .. يفتحه العمّ ” بشير” يوما أو بعض يوم و يعوقه الهرم و المرض عن فتحه أيّاما .. مازالت أيضا بمقهاها الوحيد الشّاهد على اللّغو والعراك اليوميّ …
كأنّ يدا عملاقة تسلّط ما تشاء بكبسة زرّ .. تتلاعب بالمكان والنّاس تحرّكهم تغيّرهم تجمّدهم تمحوهم ترسمهم تعيد تشكيلهم تعدّل ملامحهم على الاستسلام الغضب القسوة اللّامبالاة التّأثّر … كأنّها تعدّهم للأسوء أو هم يستعدّون …
كدت أنسى تغييرا آخر .. لم تعد في القرية طاحونة .. تلك الطّاحونة القديمة أصبحت مقرّا للحزب الحاكم الجديد